ثورة 23 يوليو
د. سمير صبّاغ
هي أم الثورات العربية، حتى أنها تضاف الى الثورات المهمة في التاريخ، من الثورة الفرنسية الى الأميركية فالبولشيفية، إذ قلبت مجتمعاً عربياً رأساً على عقب وأدخلت مبادئ وقوانين وأعرافاً جديدة في العمل السياسي التحرري فيه. اليوم تنهض في غزة مقاومة باسلة هي في منطلقاتها السياسية الوطنية ترداد لثورة يوليو المجيدة. واذا كانت نكسة 1967 شكلت هزيمة عربية وألحقت أضراراً بالغة بثورة 1952، فإن قائد الثورة استطاع أن يرتفع فوق آثار النكسة ويعدّ عملاً سياسياً وشعبياً وعسكرياً ليثأر من النكسة ويعيد أمجاد ثورة 1952. إن ما يحصل اليوم في غزة على يد المقاومة الباسلة يؤكد مرة أخرى على بسالة وعلى بطولات الشعب العربي وتضحياته في كل مكان، مهما حاولت الأبواق الصهيونية والأميركية النيل من المقاتل العربي الذي إن صمم قاتل، وإن توافرت له القيادة الحكيمة الشجاعة انتصر. حالة مصر العربية اليوم ليست أسوأ من حالها يوم اندلعت ثورة 23 يوليو. كان الاستعمار البريطاني جاثماً على صدرها وكان الفقر المدقع حال الشعب المصري: ازدياد سكاني وانكماش اقتصادي وفروق كبيرة بين الطبقات… وكانت الأحزاب تتنافس في ما بينها ضاربة عرض الحائط مصالح الشعب ولا يحد من هذا التنافس حرص على السيادة وعلى الكرامة وعلى التهالك أمام السفارات، خاصة البريطانية. وكانت القوات المسلحة وقد أصابتها الهزيمة في فلسطين تعيش حالاً من الفساد والرشوة والتبعية، وكانت حركة «الإخوان المسلمين» تستعد للقفز على السلطة فيها، وكان الوضع العربي عامة أسوأ من الحال في مصر حيث تربعت أنظمة الفساد على عروش أنظمة عربية تابعة لإمبراطوريات ذاك الزمن. وفي ليل 22 ـ 23 يوليو ضرب جمال عبد الناصر وثورة الضباط الأحرار ضربتهم القاضية على تلك التحديات كلها دفعة واحدة. لم تبالِ ثورة 23 يوليو – ومن هنا عظمتها – بالوجود البريطاني في مصر ومن تنافس الأحزاب ومحاولات جماعة «الإخوان المسلمين» الانقضاض على الحكم، ومن تردي الحالة الاقتصادية والاجتماعية. منذ ذلك اليوم بدأ ينبلج فجر جديد على الأمة العربية. كان تجاوب الشعب العربي من المحيط الى الخليج كبيراً وهادفاً إذ وجد في شعارات تلك الثورة المجيدة ما يحقق طموحاته في الحرية والاشتراكية والوحدة وطرد الاستعمار من أقطاره والقضاء على التخلف من خلال نظام اقتصادي يرتكز الى بناء اقتصاد متين على أسس العدالة الاجتماعية يقضي على التشرذم عبر مشاريع وحدوية توحد الشعب العربي.
اليوم حال مصر أفضل من حالها يومذاك، لكن قادتها الجدد يتلطّون حجج المساعدات الضرورية للاقتصاد المصري المرضي عنها أميركياً. هذه القيادة لا تنتهز اليوم الفرصة التي أتاحتها لها قضية فلسطين وغزة كي تعود مصر الى دورها في قيادة الأمة. كان ممكناً لقيادة مصر أن تغادر الموقع الوسيط بين «إسرائيل» والفلسطينيين، بل أن تلعب دور الطرف المؤثر الذي يستجيب للتاريخ والجغرافيا والمصالح المشتركة فيرفع الصوت عالياً موجهاً الإنذار الى الدوائر الصهيونية والأميركية بأن مصر تعلق معاهدة كامب دايفيد وملحقاتها اذا لم توقف «إسرائيل» الحرب على غزة، وأن مصر تغلق السفارة «الإسرائيلية» وتطرد السفير «الإسرائيلي» احتجاجاً على هذه الحرب. لو فعل السيسي ذلك لكان اليوم زعيم الأمة بلا منافس، ولقال لجمال عبد الناصر الأقرب الى شخصيته كما يدعي – أنا ابنك فعلاً وأنا مؤمن بمبادئك وأفكارك وتفانيك لأجل مصر وفلسطين وها أنذا أنتصر لأمتي ضد أعدائها التاريخيين من دون تهوّر أو مغامرة أو تراجع.
المعركة اليوم كبيرة بغاياتها وأهدافها ومجرياتها، والأمة العربية بأنظمتها كافة يلفها الصمت وتقف موقف المتفرج كأنها تساهم في الحرب على فلسطين. فانتصار المقاومة ممنوع، وقال طوني بلير إن السعودية ومصر وبريطانيا وفرنسا وأميركا متفاهمة مع «اسرائيل»، فالمعركة اليوم على فلسطين، كل فلسطين، وعلى الشعب الفلسطيني كل الشعب الفلسطيني، فالغارات «الاسرائيلية» لا تميز بين فصيل فلسطيني وآخر، وبين قومي عربي وأصولي إسلامي، ولا حتى بين «إخواني» وآخر، لذا وجب على العرب، وخاصة القيادة المصرية، أن تأخذ في الاعتبار الأمن القومي المصري والأمن القومي العربي الذي يتهدده الوجود الصهيوني في فلسطين.
في هذه الذكرى العطرة الـ 62 لثورة يوليو نجد معاني هذه الثورة متجسدة اليوم في فلسطين. ما تقوم به المقاومة، وما يرافقه من ابتهالات مئتي مليون عربي لأن ينصرها الله، تتأهب له جميع الساحات انتصاراً لها. نحتفل بهذه الذكرى وسط موجة عارمة من الحزن والفرح في آن واحد، الحزن على مئات من أطفال فلسطين ونسائها ورجالها المسنين، والفرح والحبور لما يلحقه رجال المقاومة بالجيش «الإسرائيلي» الغاصب وما تعنيه هذه المعركة من تباشير تحرير فلسطين والأمة.