من «القرضاوي» إلى «بشارة»… «ربيع عربيّ» مثقل بالنفط!
خالد العبّود
أمين سرّ مجلس الشعب السوري
هل كانت مصادفة أن يكون منظرو «الربيع العربي» في لحظة «اندلاقه» في مكان معيّن ومحدّد كي يبشرونا به، وهل كانت مصادفة أن يهرعوا جميعاً كي يكونوا على منابر حكومات الخليج كي يتحفونا بملحقاته، وكي يعرفونا بخيره وزبيبه وعسله، وكي يدفعوا الناس إليه دفعاً حاداً وبكلّ السبل والأدوات، وهل كانت مصادفة أن يفرزوا ويحدّدوا بين «ربيع» هنا و»شتاء» هناك، وبين «ربيع حقيقي» وبين آخر «مزيّف»؟
وهل كانت لحظة عابرة أو عبثية، تلك التي اجتمع بها منظرو اليسار العربي مع يمينه، كي يهتفوا لهذا «الربيع»، مع فصل حادّ ولا إنساني ولا منطقي بين ما يحصل في ليبيا وما يحصل في البحرين على سبيل المثال، وكي يعتبروا القذافي طاغية وخارجاً على الإسلام، في حين أنّ ملك البحرين يمثل ظلّ الله على الأرض، وهو يحكم بأمر منه وفضل من لدنه؟
لا نعتقد أنّ ما تابعناه كان صدفة، أو كان عابراً وطبيعيّاً، ولم نكن بحاجة إلى زمن إضافيّ كي نستدلّ على هذا الأمر، كما أننا لم نكن بحاجة إلى مزيد من الدم، أو إلى الدم أصلاً، حتى ندرك أنّ ما كان قد حصل منذ لحظته الأولى كان معدّاً ومشغولاً عليه جيداً…
قد نفهم، ونتفهّم، في المعنى المصلحي، كيف يمكن لشخص كالـ»قرضاوي» أن يصطفّ هذا الاصطفاف السياسي الحادّ، نقول السياسي، ولا نعني به الديني أبداً، كما أراد أن يسوّق له «القرضاوي» نفسه، يمكن أن يُفهم على أنّه موقف في سياق اصطفاف «إخواني» جليّ، إلى جانب قوى أخرى أرادت أن تمرّر مشروعها على مستوى المنطقة، باعتبار أنّ «القرضاوي» كان ولمّا يزل جزءاً من النسق «الإخواني» السياسي، غير أنّ الذي لم نفهمه، ولا يمكن أن يُفهم، أن يكون عزمي بشارة جزءاً من هذا الاصطفاف، خاصة أنّ منتج الاصطفاف وحيثياته كانت تتضح، من ليبيا وصولاً إلى العراق، مروراً بتونس ومصر وسورية، ويتجلّى هذا الاصطفاف «الإخواني» بصيغ «تكفيرية» متعدّدة، جذرها غرائزيّ مرتبط بثقافة صحراوية مفتوحة على جفاف حضاري شديد…!
عندما يُفتي «القرضاوي» بأنّ الحاصل في ليبيا «ثورة» ضدّ «نظام» خارج على أمر الله، يخرج علينا بشارة كي يؤكد أنّ هذه «الثورة» جاءت ضدّ «الاستبداد» الذي مارسه «نظام القذافي»، وعندما يُفتي «القرضاوي» بقتل «القذافي» باعتباره «مرتدّاً» عن الإسلام وخارجاً عليه، يطالعنا بشارة أنّ الثورات وفلسفتها عبر التاريخ لا تقوم إلا على الدماء!
لم يكن هذا التناغم بين أقصى اليمين واليسار العربي بعيداً عن فكرة التأسيس له، والاشتغال عليه، وصولاً إلى «ربيع عربي» مطلوب له أن يمرّ، وأن يأخذ شرعية مركبة، أو شرعية مزدوجة، بخاصة أنّ الدول العربية التي اجتاحها «الربيع العربي» كانت مجتمعاتها ليست أحادية الاتجاه، وإنما هي مجتمعات غنية لها أكثر من اتجاه، وفيها أكثر من مكوّن، الأمر الذي استدعى هذا الحضور المركّب والمتعدّد لمنظري هذا «الربيع العربي»!
قد يقول البعض بأنّ الثورات عبر التاريخ لا تقوم إلا بكلّ مكونات المجتمع، ولا تنهض إلا عندما تنهض كلّ أركانه، وهذا صحيح، ونحن إلى جانبه، لكن علينا أن نتذكر جيّداً، وعلينا أن نفرّق بين أن تنهض أركان المجتمع وتياراته، وبين من يريد أن يتحدث باسم أركان المجتمع وتياراته، كي يصل إلى كلّ أركان المجتمع ومكوناته، ويحاول محاكاتها كي يأخذها إلى مشهد يريده، بمعنى آخر، بين أن ينهض المجتمع، وبين من يريد أن يقول بأن المجتمع قد نهض، وبكلّ مكوناته!
أمّا الثانية فهي أنّ ناتج الثورات لا يمكن أن يكون خروجاً على ثقافة قائمة باتجاه سلبيّ، إذ أنّ «الثورة» في رأس فلسفتها أن تأتي بالأفضل، لا أن تأخذ الناس والجمهور نحو الأسوأ، كون أنّ «الربيع» الذي تمّ التنظير والإفتاء له كان يقوم على فرضيات متقدمة جداً، لجهة عناوين أساسية ورئيسية، مثل: الحرية والديمقراطية ومفهوم سيادة الدولة واحترام الآخر والوقوف في وجه الطائفية والديكتاتورية… غير أنّ واقع الحال الصاعد كان في الانزياح المطلق إلى عناوين أعادت المجتمعات التي مرّ عليها «الربيع العربي» إلى مجتمعات القرون الوسطى.
دعونا نعترف إذن، وبكثير من المصداقية والشفافية، أنّ النفط هزمنا في أكثر من معركة، وفي أكثر من عنوان، هزمنا النفط العربي بالعنوان الاجتماعي للأمة، ولا نقول للدولة، فـ «دولة الأمة» لم تنجز بعد، غير أنّ الأمة منجزة، والنفط بهذا المعنى هزمها، عندما لم يقم معنى اجتماعياً متقدماً لمكوناتها وأضلاعها، والنفط هزمها أخلاقياً، عندما لم يوطّد القيمة الحقيقية لرسالتها، من خلال العبث بهذه القيمة وتلك الرسالة، عندما صدّر لنا هذا النسق الفكري الذي لا يتقن غير القتل والذبح والتشفي!
ودعونا نعترف أنّ «القرضاوي» و»بشارة» كانا مثالين هامّين، ودليلين أكيدين راسخين، على أنّ النفط أيضاً، أعاد إنتاج نسق المرتزقة والمحتالين والسحرة والمشعوذين والنصابين من الأمة!