مَنْ له مصلحة في التغيير؟
د. سلوى خليل الأمين
من له مصلحة في التغيير في لبنان؟ سؤال يراود كلّ مواطن لبناني مقيم أو مغترب، فالكلّ يعيش القلق على الوطن الذي بات بؤرة للفساد والمفسدين، ويعيش خوف الزوال في ظلّ عدم وجود رئيس للجمهورية ومجلس نواب ممدّد ومعطل وحكومة متنافرة لا تدري كيف المسار وإلى أين المصير!
فالنخب الثقافية والفكرية والمعرفية وأصحاب الكفاءات لا حضور لهم في وطن الإشعاع والنور لبنان، إما بسبب الصمت، وإما بسبب المواقف السلبية من كلّ ما يجري على ساحة الوطن، وإما بسبب هجرة الوطن والدعوة إلى اللاعودة، وهنا يكمن الهدف الأقسى والأصعب، حين الجيل الجديد من الأبناء، بل النخب الكفوءة القادرة على بناء الوطن على أسس إدارية وعلمية وسياسية ومجتمعية واقتصادية متميّزة، قد باتوا أبناء الأوطان الجديدة، التي فتحت أذرعها لهم مستغلة نتاج عقولهم وقدراتهم المتميّزة وجهوزيتهم المتمكنة القادرة على العمل والعطاء، وهنا مكمن الخطر العظيم.
لقد بات الحديث عن الوطن والمواطنة فقاعات غريبة، لا مقرّ لها أو مستقرّ على أجندات الأبناء والنخب المتعلّمة التي تعتبر أهمّ ثروة للبلاد، حيث أصبحت عملية التفريط بهذه الثروة البشرية المقتدرة، المسمار القاسي الذي دقّ في جسد الوطن، حين عملية النفوذ السياسي والنيابي والوزاري والوظائف العامة حكراً على مغتصبي السلطة وأحزابهم وحركاتهم وتياراتهم، بغضّ النظر عن أحقية هذه النخب الوطنية المستقلة بأهمية تقديم الواجب الوطني، المفروض على كلّ مواطن لبناني بالتساوي، كما ورد في المادة السابعة من الدستور التي ساوت بين الجميع في الحقوق والواجبات.
من المؤسف أن نجد في لبنان من يتباكى على حقوق الفلسطينيين الموجودين على الأرض اللبنانية ومن يقوم بطلب المساعدات المالية والسياسية، خصوصاً من منظمة الأمم المتحدة من أجل مساعدة النازحين السوريين الموجودين أيضاً على الأرض اللبنانية، وزيارة الأمين العام للأمم المتحدة السيد بان كي مون الأخيرة إلى لبنان خير دليل على ذلك، كما اهتمام بعض الجمعيات المدنية بحقوق العمال والخادمات الأجانب الموجودين أيضاً على الأراضي اللبنانية، إلى جانب جمعيات حقوق الحيوان. هنا يرتفع السؤال الذي يضجّ في عقل كل مواطن لبناني، وهو: وماذا عن حقوقنا كمواطنين لبنانيين؟ أين فرص العمل لأولادنا؟ أين توفير الشقق السكنية عبر خطط إسكانية ترعاها الدولة بقروض ميسرة دون فوائد ودون دفعة مسبقة، ولا تأكل نصف الراتب أو ثلثيه، هذا إنْ تمّ الحصول على وظيفة خارج حدود الزعامات المسيطرة على الوظائف العامة ومثيلاتها في القطاع الخاص؟ أين مشاعات الدولة التي زنّرتها الحاشيات والزعامات وبنت عليها مؤسساتها المرفقة بعناوين: جمعيات خيرية وخلافه! ترى أليس من الأسلم إقامة مشاريع سكنية على هذه الأراضي المغتصبة كي لا يهاجر الأبناء وكذلك البنات، وكي لا تتمدّد العنوسة وينقطع النسل الذي هو مستقبل الوطن وقوته المستدامة؟
من يخاف من التغيير هم ذاتهم الذين هدموا مقومات الوطن بمعاول تخلفهم وأنانياتهم وجشعهم المفرط المتمادي في خلع «شلش الحياء» الذي بات من الماضي البعيد.
لقد أتت انتفاضات «الربيع العربي» تحت مسمّى الحرية والديمقراطية والصحوة الوطنية التغييرية من الأسوأ إلى الأحسن، هلل البعض في لبنان لهذه الصحوة المفبركة التي ظنوأ أنها تحمل لهم المنّ والسلوى لجهة تغيير سيصبّ في مصلحتهم، لهذا باتوا من أنصارها الميامين، وهكذا أصبحوا أسود الساحات في التنظير والتنغيم وإطلاق البيانات المفبركة، خصوصاً أنّ وكالات الإعلام من مرئي ومسموع ومقروء طوع بنانهم، تعطيعهم المصطلحات المطلوبة فيردّدونها كالببغاوات بمفرداتها الواحدة المتوحدة، وبالتالي كان أملهم أنّ كلّ ما يخطط عالمياً من أجل قتل الشعور الوطني، أصبح قابلاً للحياة والنجاح.
هنا لا بدّ من التذكير أنّ الكلّ يعلم، أنّ عجلة التاريخ لا ترحم ولا تتوقف، لأنّ حركتها الدائمة مستمرّة ما دام الليل والنهار يتعاقبان، بمعنى آخر ما دامت الحياة قائمة فوق خرائط الكرة الأرضية، المرسومة بدقة وعناية، والتي ما زالت تتأرجح بين مدّ وجزر، وأطماع بشرية لا تحدّها صحوات ديمقراطية شعارها تحصيل حرية الأفراد وحقهم في السعادة والفرح، لكن عن أيّ سعادة يتكلمون؟ وعن أيّ فرح ينظرون؟
لقد دمّروا الدولة بكلّ مقوماتها الإدارية والقضائية والأمنية والسياسية والتربوية وحتى الثقافية والفنية التي قامت بعد الاستقلال، ومن خلال هذا الفعل يتمّ تدمير الوطن والمواطن على حدّ سواء، وهنا لا بدّ من العودة إلى التاريخ الذي يخزن العبر دائماً، كما هو معروف ومعلوم، لكن هل هناك من قارئ جيد للتاريخ؟ هنا يجوز التذكير بين الفينة والفينة بحصيلة الثورة الفرنسية، التي أسقطت الملكية المتجذّرة في التاريخ الفرنسي، حيث بعد ثلاث سنوات من بدايتها فقط، قرّر نواب البورجوازية في اجتماع بقصر فرساي في 5 آيار 1789 أن يؤسّسوا مجلس أعيان الأمة. بعد ذلك تتابعت الأحداث، بعد سقوط سجن الباستيل الشهير في باريس، وبعد موافقة الملك لويس السادس عشر على اعتماد العلم الجديد وإلغاء الامتيازات وإعلان حقوق الإنسان والمواطن، هرب الملك إلى مدينة فارين، وأعلنت الحرب ضدّ النمسا، وقامت المجازر وانتفاضة الفقراء، ومن ثمّ أعدم الملك، وتلت ذلك إعدامات بالجملة، ثم مرحلة حكم جماعي، وعودة الأمبراطورية، وما إلى ذلك من حوادث يذكرها التاريخ بحيثياتها.
هنا يجوز القول إنّ رجال السياسة مهما تمادوا في اغتصاب السلطة والفساد والإفساد واحتكار مقوّمات الوطن وتهميش القدرات والكفاءات الشبابية المستقلة، لن يكون في وسعهم الاستمرار إلى النهاية في خداع الشعب، والرهان على صمته وسباته وخضوعه والاستسلام. والأمثلة كثيرة وإنْ حاول البعض قمعها ودفنها في المهد.
إنّ عملية الرهان على الصمت لم تعد مجدية في ظلّ تمادي الاضطهاد الذي يمارَس من قبل من هم في السلطة وحاشياتهم، وما بدا في الأسابيع الأخيرة من التفات إلى مسألة الفلتان الأخلاقي الذي يمارسه البعض من خلال تخويف فتيات قاصرات وإجبارهن على ممارسة الدعارة، كما عملية بيع الأطفال، كما قضية الضباط في قوى الأمن الداخلي، كلّ هذه الأمور هي عينة بسيطة مما يتمّ إخفاؤه بل خلطة مرسومة من أجل تأجيل الانفجار الشعبي الذي هو نار تحت الرماد.
ما هو المطلوب؟ ومن له مصلحة في التغيير من أجل بناء الدولة؟ أليس هم الوطنيون الشرفاء الذين ما زالوا يقاومون من أجل بقاء الدولة على قيد الحياة، ومن أجل حماية الوطن من الانهيار؟ ومن يقف ضدّ وضع خطط ممنهجة للتغيير والإصلاح؟ الجواب: هم الفاسدون والمرتشون والمحتكرون أموال الدولة لهم ولأزلامهم وجمعياتهم ونسائهم وحاشياتهم المتكالبة على إفشال كلّ مخطط تنموي أو نهضوي أو ثقافي أو إصلاحي أو تغييري، وذلك عبر عملية سحق ممنهجة يتبعونها ضدّ أصوات المجتمع المدني العلماني والمثقف والنخبوي، القادر حتماً في المستقبل القريب على محاصرتهم وانتزاع حقوقه منهم، دعماً للتغيير المطلوب الذي يهدف إلى بناء دولة المواطنة… التي تجعل الوطن مساحة واسعة لكلّ أبنائه.. تحت سقف القانون والدستور… وإنّ غداً لناظره قريب حتماً.
رئيسة ديوان أهل القلم