قمة اسطنبول «الإسلامية» لا تعوّم أردوغان
د. هدى رزق
تخلى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن البروتوكول المتبع في الجمهورية التركية، وتجاهل القواعد الدبلوماسية المتعارف عليها، من اجل صديقه الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز.. كان ينبغي ان تعقد مراسم الترحيب بالضيوف الأجانب في قصر الرئاسة في انقرة، لكن العلاقة الشخصية التي تطوّرت بعد تولي الأخير العرش في المملكة السعودية 2015 ادّت الى ذهاب اردوغان الى المطار لاستقبال العاهل السعودي.
استفاد أردوغان من تغيير سلمان سياسة سلفه الملك عبدالله تجاه «الاخوان المسلمين»، الذين تتشارك معهم القيادة التركية الحالية الرؤية السياسية. كان لهذا القرار تأثير في تعزيز العلاقات، وأحدث تغييراً كبيراً في طبيعتها.
حضر اردوغان حفل تنصيب الملك في الرياض وطوّر العلاقة بعد قيامه برحلة عمل الى المملكة في أواخر 2015، وهي الزيارة التي أعقبت الزيارات الوزارية حيث جرى عقد اتفاقات بين الطرفين، ساهمت في رفع مستوى العلاقات لتصبح أكثر اتساقاً مع ما يمكن وصفه بالاستراتيجي، اذ تمّ إنشاء مجلس تعاون رفيع المستوى خصوصاً في المجالات العسكرية والدفاع والتجارة والسياسة الخارجية.
أهداف الزيارة واضحة، فهي تقع ضمن إطار حضور مؤتمر قمة منظمة المؤتمر الإسلامي التي عقدت في اسطنبول بمشاركة 30 بلداً اسلامياً. لكنها هدفت أيضاً الى متابعة تشكيل تحالف قوي وزيادة المواءمة بين أولويات السياسة الخارجية لأنقرة والرياض معاً. وقَّع وزيرا خارجية البلدين بحضور سلمان وأردوغان محضر إنشاء مجلس التنسيق في المجالات الدبلوماسية والاقتصادية والتجارية وغيرها من المجالات.
أزاح تغيير سياسة المملكة تجاه الاخوان، في خطوة استيعابية، عقبة من طريق التعاون بين البلدين اللذين يتعاونان تعاوناً وثيقاً في سورية ويدعمان القوى المعارضة وتلك السلفية المسلحة نفسها، فتركيا شكلت مركز تدريب وتنظيم المسلحين، والسعودية هي مصدر التمويل والسلاح الداعم للتنظيمات الإرهابية. يتمسك البلدان برحيل الرئيس الأسد من خلال مؤتمر جنيف، ويعارضان مشاركة حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي في المحادثات، ويقفان في وجه طرح الفدرالية كلّ من موقعه.
تؤيد السعودية المصالحة بين مصر وتركيا، وهي حاولت لعب دور الوسيط بينهما، لكن مصر التي تمثلت بوزير خارجيتها سامح شكري في المؤتمر لم تعمل بموجب هذه الرغبة، لا سيما بعد الهجوم الإعلامي الذي شنّه «الاخوان المسلمون» من خلال وسائلهم الإعلامية العاملة في تركيا على الرئيس السيسي متهمينه بالخيانة لتخليه عن جزيرتَي تيران وصنافير للسعودية.
كانت أنقرة تأمل إعادة تطبيع العلاقة بين البلدين، لكن الرئيس السيسي الذي يلقى الدعم المالي لاقتصاده المتعثر من السعودية تطلع الى علاقة باردة مع انقرة بعد الوساطة السعودية. هو حذر من تدخل أردوغان في الشوؤن المصرية ودعمه لـ»الإخوان المسلمين»، وهو لن يعيد العلاقات الى سابق عهدها ايّ إلى ما قبل «الربيع العربي»، فمصر لا تريد تعويم «الاخوان»، بل هي تحاول إضعافهم ووضعهم في خدمة سياسات الدولة.
تجلى هذا البرود في موقف وزير الخارجية المصري الذي ترأس وفد بلاده خلال افتتاح القمة، إذ سلّم الرئاسة إلى الطرف التركي من دون تسجيل مصافحة بين الطرفين، وهو ما يصبّ في خانة التوتر منذ صيف 2013. تعتبر مصر انها بقرارها إرسال وزير الخارجية عدّلت قراراً كانت قد اتخذته بإيفاد مساعده، ووقفت عند طلب السعودية.
تبقى غزة العقدة الرئيسية بين البلدين. تريد أنقرة فرض تأثيرها على القطاع وهي مسألة أساسية بالنسبة لأردوغان، فهو يريد إعادة الوهج الى صورته التي تقلّصت في العالم العربي لا سيما مع العرب السنة. طالب برفع الحصار عن غزة وإقامة ميناء وتعهّد بإعادة الإعمار، لكن مصر ترى انّ غزة تشكل امتداداً لحدودها الأمنية ولا تقبل بدور سياسي لتركيا تحت حجة الإعمار والخدمات. اما «إسرائيل» فهي تريد الحفاظ على التوازن في علاقتها مع مصر حيث الكلمة الفصل للجغرافيا السياسية في العلاقة بين البلدين.
سعى أردوغان في خطاب افتتاح القمة الى حجز موقع جديد لتركيا كوسيط في الصراع السعودي الإيراني، وهذا ما عبّر عنه في قوله: «ديانتي هي الإسلام»، وشدّد على التغلب على تحدّي المذهبية بين السنة والشيعة. لاقاه الرئيس الإيراني حسن روحاني في نبذ التوتر وعدم الاستقرار في المنطقة، وشدّد على خيار الدبلوماسية ونبذ الصراعات الاقليمية. وفيما تطرق الملك سلمان الى نبذ الخلافات، ندّد بزعزعة الأمن والاستقرار وبسط النفوذ والهيمنة واستخدام الميليشيات، في إشارة واضحة الى ايران. لا يمكن لأردوغان ان يكون وسيطاً في مشاكل المنطقة، فهو جزء منها، لكنه يستطيع المحاولة خدمة لمصالحه المتعثرة. فالمصالح المتضاربة بين الدول الاسلامية لا يمكن حلها في قمة، لكن جمع القيادات الاسلامية وإنْ تضاربت مواقفهم في اسطنبول، يمكنه ان يعطي اردوغان دورا في إذابة جليد العلاقة بين إيران والسعودية ولو شكلياً.
لم يفت اردوغان التشديد في خطابه على ضرورة حلّ مشاكل الدول الاسلامية في ما بينها بعيداً عن التدخلات الخارجية، في اشارة الى روسيا والولايات المتحدة. فما يقرّب اردوغان وسلمان اليوم هو موقفهما من الرئيس الاميركي باراك اوباما، فأردوغان لم يكن مرتاحاً في زيارته لواشنطن منذ اسبوعين، حيث سيطر عليها جو من التوتر، في الوقت عينه، أثارت وسائل الإعلام الاميركية مشكلة القبض في ميامي على رضى زراب المتهم بتجاوز العقوبات الاميركية على إيران وتهريب الذهب اليها مقابل الطاقة، وأشارت الى ضغوط يمكن ممارستها على أردوغان الذي كان يرأس الحكومة التركية التي أفرجت عن 4 وزراء قدّم لهم زراب الرشى، وتمّ الإفراج عنهم بقرار من أردوغان في حينه، وإقالة قضاة وضباط شرطة في ما عرف بفضيحة الفساد 2013. تخشى أوساط تركية ان يكون لهذه المسألة تأثير على المسؤولين الأتراك والحياة السياسية في الداخل التركي، اضافة الى اتهام واشنطن لأردوغان بضرب الحريات ومساندة التطرف الإسلامي.
اما السعودية فهي الأخرى لديها مشاكلها مع اوباما، وتعتبر انّ إشاعة خبر وجود تقارير استخبارية اميركية ووثائق حساسة حول احتمال وجود شبكة دعم من داخل السعودية للإرهابيين في 11 أيلول/ سبتمبر 2001، إضافة الى وجود أجواء عدم الثقة بين الحليفين السعودي والأميركي حول التزام السعودية محاربة الارهاب والقتال ضدّ التطرف الاسلامي بمثابة إنذار الى القيادة السعودية وضغط عليها للتنازل في قضايا داخلية واقليمية.
لن تغيّر القمة الاسلامية من واقع الحكم في تركيا في ظلّ الأزمات الداخلية المتعدّدة التي تعيشها بدءاً من الحرب في الجنوب الشرقي بين القوات الحكومية وحزب العمال الكردستاني، الى التوترات بين الأحزاب واقتراح رفع الحصانة التشريعية عن أعضاء البرلمان التركي في إطار مكافحة الإرهاب، وكان أردوغان قد لوّح باتهام نواب حزب الشعوب الديمقراطي بتهريب الأسلحة في سياراتهم وفي النعوش لحزب العمال الكردستاني.
لا يتوانى كلّ من أردوغان ورئيس وزرائه عن اللعب على تناقضات الأحزاب السياسية التركية بسبب ضعف بعضها، ودقّ اسفين بين القيادات داخل بعضها الآخر، عقاباً لبعضها على رفض النظام الرئاسي، ودعماً لبعض آخر من أجل كسبه في هذه المعركة المصيرية بالنسبة لشخص الرئيس.