أسباب الإصرار السعودي للتفاوض تحت النار… والنتائج؟
العميد د. أمين محمد حطيط
من جنيف إلى الكويت ومن سورية إلى اليمن، السياسة السعودية القائمة على العدوان وانتهاك السيادة الوطنية والتدخل بشؤون الغير، سياسة واحدة كانت آخر تجلياتها اليوم اعتماد «التفاوض تحت النار» النظرية التي تريد السعودية ممارستها لتعويض هزائمها وإخفاقاتها الميدانية التي سجلت في اليمن الذي استعصى على «التحالف» العدواني الذي تقوده السعودية. وفي سورية صمدت في مواجهة الجماعات الإرهابية التي اعتمدتها السعودية في سياق الحرب بالوكالة التي انخرطت فيها، بقيادة أميركية ومشاركة متعدّدة الأطراف والجنسيات، اعتمد الجميع فيها أسلوب الإرهاب المسقط للدولة والاستثمار بالإرهاب لتحقيق غايات وأهداف استراتيجية متعدّدة العناوين.
فالسعودية تخوض الحرب في اليمن منذ 13 شهراً، حرباً توخّت منها تركيع اليمن وإعادته إلى سيطرتها باعتباره الحديقة الخلفية التابعة لها، وكذلك ساهمت السعودية في الحرب العدوانية الكونية على سورية منذ خمس سنوات من أجل إسقاط الدولة ثم اقتسام النفوذ فيها مع إقليميين برعاية أميركية، ثم محاولة الاستئثار بكامل القرار السوري وجعل سورية مباشرة أو مداورة جزءاً من الفضاء الاستراتيجي السعودي الذي تمنح فيه شركاء آخرين بعض المنافع أو المصالح برعايتها.
لقد رأت السعودية أنّ تحقيق أهدافها في اليمن وسورية لا يكون إلا عبر حكمها بواسطة دمى تحرّكها هي، وتقرّر عنها ما يكون وما يجب أن يكون، وتكون تبعيتها لها كما يتبع أمير مدينة ملك المملكة، أو كما يكون حال رئيس البلدية مع السلطة المركزية، وهي في هذا لا تعبأ بإرادة شعبية ولا بسيادة وطنية ولا بقرار مستقلّ، فبالنسبة لها الجميع أتباع وأجزاء من فضائها الاستراتيجي الذي أقامته بالمال أو بالسيف، فحيث يعجز المال عن صيانة هذا الفضاء يكون للسيف أن يلعب دوره ويقطع النزاع.
لكن مشكلة السعودية مع البلدين ــــ سورية واليمن ــــ هي أنّ المال لم ينفع ولم يحدث أثراً في الإمساك بهما، وأنّ السيف نبا وقصر عن تحقيق المُراد وبات المجتمع الدولي الممالئ للسعودية في عدوانها على اليمن وعلى سورية، والذي اشترت فيه الذمم بالمال والصفقات، بات عاجزاً عن الاستمرار في التغطية على جرائمها والاستمرار في مواكبة عدوانها المباشر أو غير المباشر.
عجز مردّه إلى حجم الفظائع التي أحدثتها الجرائم السعودية في اليمن، ومنها ما هو من طبيعة جرائم الحرب وجرائم ضدّ الإنسانية، كما وحجم التهديد للمصالح الغربية جراء وجود هذه الأعداد من النازحين من سورية، كما وتنامي قدرات الجماعات الإرهابية، بحيث باتت تهدّد الأمن خارج سورية إقليمياً ودولياً فضلاً عن أمر آخر أكثر أهمية مما تقدّم، أمر يتعلق بمسار المواجهة في الميدان والنتائج المحتملة والمرتقبة منه، حيث إنّ المحترف الموضوعي العاقل من أصحاب الشأن والاختصاص بات على يقين بأنّ الحرب على اليمن مهما طالت فلن تصل إلى أيّ نتيجة تريدها السعودية لا بل إنّ السعودية باتت مهزومة مأزومة فيها أما الحرب على سورية فقد بات يقيناً أنها أخفقت في تحقيق المطلوب وأنّ سورية تسير بثبات في الميدان نحو استعادة السيطرة على أراضيها من الإرهابيين وهي الآن تحكم السيطرة على أرض يقطنها أكثر من 80 من السكان.
استناداً إلى هذه الحقائق تشكلت قناعة عند الجميع وبخاصة قيادة العدوان على المنطقة بأنّ الحرب والأعمال العسكرية لن تحقق شيئاً من الأهداف المبتغاة من العدوان، وتأكد لهم أنّ العمل السياسي وحده هو السبيل الذي يمكن التعويل عليه للخروج من المأزق مع تحقيق قدر معيّن من المكتسبات والمصالح سواء في اليمن أو في سورية. وبالتالي كان خيار العمل على المسار السياسي بالنسبة لمكونات العدوان طريق اضطرار، ولذلك كان سلوكهم عليه يتسم بسوء النية والمناورات الخبيثة التي تختزن إمكانات الانقلاب على الحلّ والعودة إلى الميدان بفعالية في أيّ لحظة يبدو فيها الأمر متاحاً لتعويض الخسائر والخروج من الهزيمة والإخفاق.
أما طرق المناورة فلم تكن واحدة لدى مكونات العدوان، حيث ابتدع كلّ منهم لنفسه نوعاً يناسبه منها، وكانت السعودية أحد أسوأ من يناور في هذا المجال، حيث إنها اعتمدت سياسة تقوم على عنصرين: العمل الانتقامي الثأري، والتفاوض تحت النار. وتطبيقاً للأولى كانت خطتها الموضوعة مع «إسرائيل» تحت عنوان «الحرب على حزب الله» الذي تحمّله السعودية مسؤولية أساسية في إخفاقها في اليمن وسورية، ما قادها لإعلان تحالفها مع «إسرائيل» ضدّه ووضع خطة حرب تنفذها على لبنان، حرب تكون مسبوقة بعمل سعودي يترجم بشيطنة الحزب ومحاصرته محاصرة متعددة الأشكال، بما فيها الأمني عبر تفجير الوضع الأمني في لبنان.
وفي الثانية أي التفاوض تحت النار، فقد توخّت السعودية منها تحقيق أحد أمرين: إما ابتزاز المفاوض الآخر وجعله يرضى بما يفرض عليه وتطالب به السعودية منذ بدء العدوان، أو جعل الآخر يرفض التفاوض فتتوقف الحركة على المسار السياسي ويتحمّل الخصم مسؤوليتها وتبرّئ السعودية ذمّتها من الأمر برمّته وتكسب الوقت الذي تريد، خاصة أنها تعوّل على العهد الأميركي الجديد في العام 2017 الذي تراه سيكون بالنسبة لها أفضل من الحالي.
وعلى أرض الوقع أصرّت السعودية عبر ممثليها في جنيف على مقولتها البالية وتمسكت بالمرحلة الانتقالية وبتسلم السلطة في سورية بصرف النظر عما هو قائم في الميدان، ولما لم يصغ إليها فجّرت الجبهات الميدانية التي تستطيع التأثير فيها تفجيراً ألحق بالغ الأذى بالمدنيين السوريين، ثم أتبعت ذلك بالانسحاب من جولة التفاوض معتقدة بأنّ العملية ستتوقف بمجرد انسحابها.
أما في الكويت، حيث تعقد المباحثات بين الوفد الوطني اليمني القادم من صنعاء ووفد السعودية المدّعي الشرعية اليمنية والقادم من الرياض، فقد أصرّت السعودية على مواقفها التي أعلنتها صبيحة العدوان على اليمن والمتمثلة بتجريد اللجان الشعبية والجيش اليمني الذي لم يخضع للرئيس الفارّ هادي المؤتمِر بأمر بالسعودية والعودة بالحال في اليمن إلى ما كان عليه قبل الثورة التصحيحية التي انطلقت في أيلول 2014. أيّ بمعنى عودة السعودية للإمساك بقرار اليمن وكأنّ شيئاً لم يكن، لذا رفضت تثبيت وقف إطلاق النار رفضاً جعل أحد أعضاء الوفد السعودي في الكويت يقول تبريراً له بأنّ وفده بحاجة إلى طلعات الطيران السعودي لتحقيق أهدافه على طاولة المفاوضات.
وفي المقابل نجد الوفد الوطني السوري يطرح في جنيف موقفاً منطقياً ودستورياً يتمثل بتشكيل حكومة وحدة وطنية تشمل جميع مَن يؤمن بوحدة سورية وينبذ العنف، حكومة تعمل وفقاً لمقتضيات الدستور وتعمل على تطويره وتعديله وعرضه على الشعب ثم صياغة الدولة بالشكل الذي يوافق الشعب عليه. الأمر الذي ترفضه السعودية لأنها تعلم انه سيحول دون وجودها في سورية حاكمة متحكمة، لذلك ترفضه وتعوّل على النار مجدّداً علها تخرجها من مأزقها، وهذا ما فعلت دون أن تجني شيئاً حتى الآن.
وفي الكويت برز الوفد الوطني اليمني منطقياً بطرحه وإنسانياً بموقفه، عندما رتب المواضيع تسلسلاً في محطات ثلاث متتابعة: تثبيت وقف إطلاق النار، حسم المسائل السياسية والاتفاق حول البناء السياسي للدولة، حسم الوضع العسكري والاتفاق حول مصير السلاح والعناوين الأمنية في البلاد. منطق جوبه بالرفض، لأنّ السعودية تريد أن تعالج الأمر بالمقلوب: سلاح ثم سياسة وأخيراً وقف إطلاق النار بعد أن تكون قد نالت كلّ ما طلبت.
إذن وباختصار، السعودية لا تريد حلاً سياسياً لأيّ من أزمتي اليمن وسورية، بل تريد فرض استسلام على القوى والأطراف الوطنية هنا وهناك، ولذلك ترفض وقف النار في اليمن وتخرق عبر مرتزقتها وقف الأعمال القتالية في سورية، والغاية واحدة هنا وهناك: الضغط والابتزاز، ولكن السعودية تنسى أو تتناسى وتتجاهل أنّ مَنْ منعها مِن تحقيق أهداف عدوانها طيلة الفترة السابقة قادر وبكفاءة عالية على منعها مجدّداً من تحقيق أهداف مناورتها، وأنّ البيئة الإقليمية الدولية تتطوّر في غير صالحها، كما الأموال التي كانت تشتري بها الذمم والأقلام والمواقف تنضب ولن تبقى كافية لتحقيق ما تريد.
وكما أخفقت السعودية في العدوان الأساسي على اليمن وسورية ستلاقي الإخفاق ذاته وبوقع أكبر في مناورتها الخبيثة الإجرامية. وما المسألة إلا مسألة وقت لن يقاس إلا بالأسابيع التي لن تتعدّى شهور هذا العام، خاصة بعد أن تلقت السعودية التحذير من أوباما بأنّ حربها على اليمن يجب أن تتوقف قبل حزيران المقبل، وعليها في سورية أن تنتبه لمتغيّرات كبرى ستفوق طاقاتها على الاحتواء.