واشنطن تفصل ملف حزب الله عن إيران
روزانا رمّال
تبدو السياسة الغربية سياسة متناقضة ظاهرياً، لكنها بالواقع متوازنة لجهة الحفاظ على مصالح محلية وخارجية تعتبرها واشنطن أساس العلاقة بينها وبين حلفائها، من هنا تبدأ الظواهر والأحداث بتفسير نفسها تلقائياً في وقت كادت تشكل بعض الخطوات تصدّعاً كبيراً بينها وبين حلفائها وبعضهم مقرّب جداً مثل «إسرائيل» بالدرجة الأولى والمملكة العربية السعودية على صعيد عربي أو خليجي، حتى باتت تفاهمات واشنطن تقابَل بخطوات كان متوقعاً عكسها، والأكثر حضوراً اليوم توقيع الولايات المتحدة الأميركية مع مجموعة دول الخمس زائد واحد الاتفاق النووي مع إيران.
أفرز إنجاز الاتفاق واقعاً جديداً وروحية جديدة لتعامل طهران مع العالم ولتعامل العالم معها، وكانت أبرز نتائجه زيارتين رئيسيتين قام بهما الرئيس حسن روحاني الى ايطاليا وفرنسا مع ما للبلدين من رمزية أوروبية دينية وثقافية، فانبثقت عنهما عقود تجارية وازنة أسّست لعلاقة اقتصادية طويلة الأمد نظراً لحجم العقود بالمليارات.
الانطلاق من وضع التفاهم النووي الإيراني كركيزة أساسية في ايّ مطالعة سياسية في الشرق الأوسط هو أساس وسيبقى حتى سنوات طويلة، فمنذ عشية التوقيع بدأت التغيّرات الدرامتيكية تطفو ويتعزز ويتوسّع منطق التحالفات بالمنطقة، واتخذت السعودية «القرار الجريء» بشنّ حرب مفصلية على اليمن الذي يبقى الأكثر أهمية بهذا الإطار، فهي واحدة من أبرز تداعيات هذا التوقيع الذي يكرّس بشكل أساسي إيران جارة خليجية قادرة على الهيمنة على الخليج سياسياً واقتصادياً، والرياض تدرك تماماً حجم ومعنى هذا التوقيع القادر على استجلاب القوى الأوروبية والغربية نحو طهران، وقد نجحت في ذلك حتى أنّ معظم الدول التي كانت تعارض سياسة إيران في سورية، وتكثر من إطلاق المواقف المندّدة لدعمها لحزب الله والجيش السوري مثل فرنسا، أحجمت بشكل نهائي عن هذه التصريحات وانصرفت لتعزيز العلاقة الفرنسية الإيرانية الثنائية كأولوية.
التوقيع أنتج بشكل متوقع حلفاً متضرّراً، فـ»إسرائيل» ومعها السعودية وتركيا هي دول غير مستفيدة من هذا التفاهم بين الإيرانيين والغرب، أو هذا التحوّل الذي من شأنه تبييض صفحة إيران بالكامل بعد صورة تشدّد وتطرّف أحاطت بها لعقود من الزمن، إضافة إلى مواقف دقيقة جداً تتعلق بمصير «إسرائيل» صدرت عن هذا النظام الذي لا يزال يتبناها بالكامل نظراً لاعتبارها منهجاً في أيديولوجية وعقيدة ثابتة كاعتبار «إسرائيل» مثلاً «كياناً محتلاً سيزول حتماً». بالتالي فإنّ تداعيات متوقعة سلفاً من قبل الولايات المتحدة وهي بالتأكيد لم تكن مفاجئة بالنسبة إليها قرّرت تخطيها أو إيجاد نوع من المخارج أو استنباط أساليب لترويض حلفائها حتى لا يختلّ التوازن السياسي بالمنطقة، ولو كلف هذا الأمر جهداً أميركياً غير مسبوق.
عملياً، أكثر ما يعني واشنطن هو تل أبيب وتعايشها مع الواقع الجديد، فـ»إسرائيل» تعتبر انّ الإدارة الأميركية تخطت بقرارها مسألة الحفاظ على الأمن القومي «الإسرائيلي» كخط أحمر بتعاونها مع مَن يدعم أعداءها مثل حزب الله بشكل خاص، واليوم بات ممكناً تفسير الخطوة الأميركية بعد مرور ما يقارب السنة تقريباً على التوقيع ومساحة «إسرائيل» من الحرص.
كان من المفترض أن تتأثر العلاقات الإيرانية الغربية وتؤثر بطريقة أو بأخرى على حلفائها وعلاقتهم بمنظمات دولية وغربية وبنظرة الدول إليهم، فحزب الله مثلاً المصنف إرهابياً بجناحه العسكري أوروبياً، كان من المنتظر أن يتحرّر من التصنيفات بأقرب وقت وكان متوقعاً أيضاً أن يجري تواصل مباشر بين الأميركيين والحزب في ملفات محلية في لبنان، وهذا ما خلص إليه الكثير من التحليلات الصحافية والسياسية، إلا انّ ذلك لم يحصل ولم يتأثر الحزب إيجاباً حتى الساعة بمفاعيل الاتفاق بين الإيرانيين والغرب ويلفت اليوم بشكل دقيق تصعيد غير مسبوق على حزب الله بقيادة أميركية مباشرة بقرارات تعاقب مالياً كلّ من له علاقة أو يتعاون اقتصادياً وتجارياً معه من أفراد ومؤسسات وتساهم في هذا مصارف محلية ودولية، في وقت ترفع العقوبات عن إيران ويتعزز وضعها التجاري والإنمائي.
يتكشف هنا أنّ واشنطن فصلت بين مصلحتها في ضرورة توجهها نحو طهران لحلّ باقي مشاكل المنطقة في سورية والعراق وأفغانستان من جهة، ولجهة حاجة السوق الغربي والأوروبي لمساحة عمل واسعة موجودة في إيران اليوم من جهة أخرى، معتبرة أنّ «إسرائيل» معنية بملف حزب الله فقط فلماذا تخسر واشنطن فرصة التقرّب من إيران والاستفادة منها بمجرد ربطها بدعمها لحزب الله؟
أخذت واشنطن على عاتقها مسألة تقويض حزب الله أمنياً وسياسياً ومالياً وإعلامياً مستعينة بمعاونين عرب وخليجيين مثل دول كالسعودية التي صارت رأس حربة النزاع مع الحزب، وكلّ هذا تقرّر في قمة أوباما ونتنياهو في تشرين الثاني الماضي، فحققت نتائج واضحة بهذا الإطار بينها اغتيال قائد كبير في الحزب، وهو مصطفى بدر الدين، وشنّ أوسع مروحة عقوبات مصرفية عليه، إضافة إلى حجب وسائله الإعلامية.
فصل ملف حزب الله المالي عن إيران بالكامل والاستفادة مما يمكن أن تتيحه فكرة التعاون مع طهران، بدلاً من المقاطعة، خطة أميركية «إسرائيلية» وتنسيق واضحان لا يمكن إنكار نجاحهما فيه. وهو أمر مفترض أن يدركه حزب الله جيداً في معرض تصدّيه وتحذيره المستمرّين من المخططات الأميركية ــــ «الإسرائيلية» ضدّه.