مقاومان من الشمال والجنوب
معن بشّور
سيّد مقاوم
قبل عام 1982، عام الغزو الصهيوني للبنان، كان اسم النائب السابق، والمربّي الكبير، والشاعر والأديب السيّد جعفر شرف الدين الذي ودّعناه في مثل هذا اليوم قبل 15 عاماً ، مرتبطاً باسم والده المرجع الإسلامي الكبير سماحة السيد عبد الحسين شرف الدين الذي دعا عام 1920 عام ولادة السيد جعفر ، إلى مؤتمر وادي الحجير الذي بات معروفاً بأنه مقبرة دبابات العدو الصهيوني في حرب تموز 2006 على يد المقاومة ، حيث أعلن المجتمعون رفضهم للانتداب الفرنسي ورغبتهم بالوحدة بين لبنان وسورية…
ثم بات اسم السيد جعفر شرف الدين أبو محمد في الخمسينيات والستينيات مرتبطاً بالكلية الجعفرية في صور التي تخرّج منها آلاف الشباب الوطني والقومي من بعثيين وقوميين عرب وشيوعيين ، وخرجت من باحاتها المسيرات والمظاهرات المندّدة بسياسة الأحلاف حلف بغداد والمشاريع الاستعمارية مشروع أيزنهاور ، والتي كانت قاعدة من قواعد استقبال الاخوة الفلسطينيين بعد نكبة عام 1948، وإحدى نقاط الارتكاز للانتفاضة الوطنية الكبرى عام 1958، والتي توجّهت منها قوافل السيارات والباصات وعلى رأسها السيد جعفر إلى دمشق للترحيب بالخالد الذكر جمال عبد الناصر بعد قيام الوحدة السورية المصرية في شباط 1958، إلى أن انتخب أهل صور جعفر شرف الدين نائباً عن منطقتهم عام 1960، ولثلاث دورات انتخابية متتالية…
بعد غزو 1982، واحتلال أراض واسعة من لبنان وصولاً إلى احتلال العاصمة بيروت، وقيام المجاهد الاستشهادي احمد قصير رحمه الله بتفجير مقرّ الحاكم العسكري الصهيوني في صور وقتل أكثر من150 عسكرياً صهيونياً في 11/11/1982، وتصاعد عمليات المقاومة الوطنية والإسلامية بدءاً من العاصمة وصولاً إلى كلّ المناطق المحتلة، بات السيد جعفر، وهو ابن الثانية والستين من عمره يومها، واحداً من أبرز وجوه العمل السياسي والثقافي المقاوم، فصدح صوته في المنابر الثقافية والوطنية، وعلا رأيه في المنتديات واللقاءات والتجمّعات والمهرجانات الوطنية بدءاً من المجلس الثقافي للبنان الجنوبي، وصولاً إلى قاعة جمال عبد الناصر في جامعة بيروت العربية، مروراً بدار الندوة، والحركة الثقافية في انطلياس، متصدّياً بشجاعة مميّزة، لا للاحتلال الإسرائيلي فحسب، بل أيضاً لمنطق التخاذل والاستسلام والانقسام الذي بات البعض يروّج له وصولاً إلى اتفاق العار والإذعان المعروف بـ 17 أيار…
في زمن الحرب والانقسام كان السيد جعفر السباق في التجاوب مع كلّ مشروع يسعى لتجسيد الوحدة بين اللبنانيين، فكان شريكاً في إطلاق «دار الندوة» وفي تسميتها، ومؤسّسها في برنامج «شباب لبنان الواحد»، وامينا في مجلس أمناء المنتدى القومي العربي منذ تأسيسه عام 1992.
وحين كرّمه المنتدى في عرينه العاملي، «الجعفرية»، كانت عينا السيد الجليل طافحتين بالدموع وهو يستمع إلى كلمات لقادة وشخصيات آتين من كلّ لبنان يذكّرون بعطائه الإنساني والتربوي والثقافي والنضالي الذي لم يتوقف يوماً واحداً، معلناً أن لا شيء يعوّض عليه كلّ سنوات نضاله وعطائه إلاّ أن يرى الجنوب كله محرّراً».
وهكذا كان، فبعد عام ونيّف على التحرير في أيار/مايو 2000، ترجل الفارس العاملي عن صهوة جواده، ليلتحق بمن سبقه من الشهداء من أجداده آل البيت، إلى تلامذته أبناء جبل عامل الذي بات مقبرة للغزاة.
لك الرحمة يا سيّد… كنت رجل المقاومة والعروبة والوحدة الوطنية والعربية والإسلامية.
أحمد الصوفي… الرائد في المقاومة
أربعون عاماً مضت على رحيل المناضل المميّز أحمد الصوفي، ابن طرابلس الأبية الشامخة، القيادي السابق في حزب البعث، والرمز المؤسّس في تجمّع اللجان والروابط الشعبية.
أمضى «أبو الصوف» أكثر من ثلثي عمره القصير، الذي لم يتجاوز يوم وفاته الأربعين عاماً، في ساحات النضال الشعبي في طرابلس ولبنان، مواجهاً «لاحتكار قاديشا» الكهربائي، مناضلاً دون هوادة إلى جانب المظلومين والمضطهدين من أبناء مدينته ومنطقته، تحت راية العروبة الجامعة وفلسطين البوصلة…
بعد هزيمة العرب عام 1967، كان أحمد الصوفي أحد قادة اللجان الشعبية لمقاطعة البضائع الأميركية، وأحد مؤسسي لجان دعم المقاومة الفلسطينية، حتى انخرط مع رفاقه في العمل الفدائي الفلسطيني فحشد المتطوّعين وأشرف على تدريبهم في مخيمات الشمال البارد، والبداوي ، وعلى إيصال العشرات منهم إلى الأردن قبل 1970، وإلى العرقوب في سنوات ما قبل الحرب اللعينة في لبنان 1975 ، فاستحق أن يكون قائداً في الثورة الفلسطينية من خلال دوره في جبهة التحرير العربية، وقائداً في الحركة الوطنية والشعبية اللبنانية من خلال دوره القيادي في حزب البعث، ثم من خلال دوره التأسيسي في تجمع اللجان والروابط الشعبية.
في 12 أيار 1970، وفي واحدة من أولى الغزوات الصهيونية لجنوب لبنان، جرت معركة في الهبارية العرقوب بين المقاومين اللبنانيين والفلسطينيين والعرب وبين العدو الصهيوني، استشهد فيها ثلاثة من أبناء طرابلس من تلامذة أحمد الصوفي أحمد هوشر، محمد ديب الترك، سمير حمود ، ومعهم رفيقهم العراقي ابن الموصل صقر البعث فكانوا من أوائل رموز البعد اللبناني والعربي للثورة الفلسطينية جنباً إلى جنب مع الأخضر العربي أمين سعد ، وحسين علي قاسم صالح شبلي ابن كفر شوبا ، وواصف شرارة قبل 1970، ومع علي وفلاح وعبد الله شرف الدين ومحمود قعيق وعبد الأمير حلاوي أبو علي وغيرهم بعدها…
كان أحمد الصوفي نموذجاً للمناضل الجامع بين القضية الاجتماعية والحياتية والقضية الوطنية والقومية، بين الوعي السياسي والالتزام الأخلاقي والإنساني، بين الشجاعة المتألقة والتفاني الكامل في خدمة شعبه وأمّته.
كنت تراه يقود في الشارع الطرابلسي حملة مقاطعة احتكار شركة الكهرباء، وفي الشارع البيروتي في حملة إدارة الأفران يوم إضراب الخبز، وفي الشارع الجنوبي في حملة الانتصار لمزارعي التبغ، فكان حاضراً في كلّ معركة على امتداد لبنان، وكان متفاعلاً مع كلّ قضية على مستوى الوطن العربي…
وأذكر أنه في كلّ مرّة، مع بداية الحرب في لبنان، تحدث تطورات في طرابلس أو الشمال، كان الرئيس الشهيد ياسر عرفات يسألني: ما رأي الأخ أحمد؟ فقد كان القائد الفلسطيني يدرك أنّ أحمد الصوفي بالتصاقه بالناس يدرك نبض الشعب وأنه من النوع الذي لا تحرّكه سوى مصلحة شعبه وأمّته، ولا يسعى إلى جاه أو مال أو مكسب شخصي…
حين عاجله مرض عضال في صيف 1975، كان يرفض الإقامة في المستشفى، بل يصرّ أن يتوجه إلى حيث هناك معركة أو مواجهة دفاعاً عن مدينته ووطنه وقضاياه، ولو استغرق الأمر يومها ساعات طويلة من السفر والعناء…
أجمل ما في هذا المناضل الصلب هو علاقته بالأطفال، الذين لم يكن يرى فيهم المستقبل فحسب، بل يرى في براءتهم ما يغسل نفسه من أدران الواقع الذي يعيشه اللبنانيون.
وحتى في لحظات الوداع الأخيرة… لم تفارق البسمة وجه «أبو الصوف» المضيء… بل كان يردّد دائماً… «انتبهوا للشباب… انتبهوا للقضية…»
«أبو الصوف»… كم نفتقدك… رغم مرور السنين.
المنسّق العام لتجمّع اللجان والروابط الشعبيّة