أخطر من الإرهاب التماهي معه…
عصام نعمان
يُجمع العالم، أو يكاد، على إدانة الإرهاب. لكنه لا يُجمع على محاربته. السبب؟ لأنّ ثمة اختلافاً بين الحكومات على تحديد هوية الإرهابيين ومدى ضلوعهم في أفعالجرمية.ثم هناك اختلاف على طرق التعامل معهم. فبعض الحكومات يتعاون مع بعض التنظيمات الإرهابية، سراً، ضدّ بعضها الآخر. وبعض الحكومات يستعمل بعضاً منها ضدّ خصومه ومناوئيه.
ذلك كله يُضعِف قضية مواجهة الإرهاب ويتيح للإرهابيين فرصاً للإفادة من التناقضات من أجل تعزيز وجودهم وإجرامهم. غير أنّ أخطر من ظاهرة الإرهاب ظاهرةُ التماهي معه. ثمة أشخاص في كلّ أنحاء العالم ليسوا أعضاء عاملين في تنظيمات إرهابية، لكنهم متعاطفون مع بعضها، نفسياً او عقائدياً أو سياسياً، الى حدِّ التماهي معها.
للتماهي مع تنظيمات الإرهاب مراتب، أدناها التعاطف سراً أو علناً مع أحدها، وأقصاها القيام بعمل إجرامي يحاكي أعمالها الإرهابية من دون التنسيق مع التنظيم الإرهابي موضوع التعاطف أو التماهي ولا حتى إعلامه بما يُراد عمله.
بعد اقتراف الجرم المدوّي، يعلن الإرهابي «الهاوي»، من تلقاء نفسه أو نتيجةَ ضغوط المحققين معه، انتماءه الى التنظيم الإرهابي الذي يتعاطف أو يتماهى معه.
بعض الإرهابيين «الهواة» يُقتل في العملية الإرهابية التي يقوم بها من دون أن يترك آثاراً تدلّ اليه، لكن سرعان ما يعلن أحد التنظيمات الإرهابية «داعش» غالباً تبنّيه لها.
تُطلق وسائل الإعلام على الإرهابيين «الهواة» من غير الأعضاء في التنظيمات الإرهابية «المحترفة» مصطلح «الذئاب المنفردة». هؤلاء باتوا يشكّلون ظاهرةً لا تقلّ خطورة عن ظاهرة الإرهاب المحترف والمعلَن. ذلك أنهم ذاتيّو الاندفاع، لا يكلّفون التنظيم الإرهابي الذي يتماهون معه ايّ نفقات نقل وانتقال وإعالة وتدريب، متواجدون في كلّ أنحاء العالم، وقادرون تالياً على التخفّي والعمل دونما عونٍ خارجي.
الى ذلك، يصعب على أجهزة الأمن والاستقصاء اكتشاف «الذئاب المنفردة» والقضاء عليها قبل قيامها بأفعالها الجرمية، في حين يسهل عليها تحديد هوية وأمكنة تواجد التنظيمات الإرهابية المعلنة والناشطة، خصوصاً تلك التي تمكّنت، كـ»داعش» مثلاً، من السيطرة على مناطق ومدن في العراق وسورية وأنشأت فيها «دولة» لها ما يماثل الأجهزة والمؤسسات في الدولة المعاصرة.
تنظيم «داعش» أدرك قبل سنوات أنّ المتضرّرين من أفعاله الجرمية وبينهم دول كبرى – عازمون على تدمير «دولته الإسلامية» في العراق وسورية فقرّر، بحسب معلومات خاصة حصلت عليها صحيفة «ذي غارديان» البريطانية، التركيز على السكان والأفراد بدلاً من التركيز على الأرض، ربما لعلمه أنه لن يستطيع الاحتفاظ مدةً طويلة بقاعدته الأرضية. أكثر من ذلك، تبيّن من المعلومات الخاصة التي كشفتها الصحيفة البريطانية قبل أشهر أنّ «داعش» قرّر زيادة أعداد الإرهابيين المحترفين المرسَلين الى دول أوروبا، وأنه نتيجةَ هذا القرار العملاني جرى تنفيذ عمليات إرهابية مدوّية في فرنسا وبلجيكا وألمانيا، ناهيك عن أعمال إرهابية متفرّقة قامت بها «ذئاب منفردة» في دول أوروبية عدّة.
ما الغاية المرتجاة من زيادة العمليات الإرهابية في دول أوروبية متّهم بعضها بدعم «داعش» وغيره في عملياته المشرقية؟
بات واضحاً أنّ العمليات الداعشية، بموجب سلوكية «إدارة التوحش»، هي غاية ووسيلة في آن. الغاية هي تدمير هدف بشري او مادي يعتبره «داعش» معادياً وذلك لحمل صاحبه على وقف حربه عليه أو لحمله على مهادنته ودعمه بالمال والسلاح اتّقاءً لشرّه. الوسيلة هي استعمال العمليات الإرهابية للتأثير والإغراء والتغرير، ولاجتذاب عناصر بشرية تُؤخذ وتُسحر بعمليات عنفٍ مدوّية تُحاكي المشهديات السينمائية الخيالية المرعبة.
لا غلوّ في القول إنّ كلّ مختلٍّ عقلياً او نفسياً هو مشروع إرهابي صالح للانخراط في «داعش» أو للتحوّل ذئباً منفرداً متعاطفاً والإعلان تالياً عن انتمائه الى التنظيم المقتدر الذي عجزت دول كبرى عن هزمه أو تطويعه!
لعلّ الجريمة المرتكبة قبل أيام في كنيسة قرب مدينة روان، شمال فرنسا، تكشف الصعوبات التي تكتنف الإحاطة بـِ «الذئاب المنفردة» وإحباط نشاطها. فقد تبيّن أنّ أحد ذابحي كاهن الكنيسة كان معروفاً من أجهزة الأمن إذ حاول مرتين التوجّه الى سورية، وكان يخضع للمراقبة بسوار الكتروني حين نفذ الجريمة، وانّ جاره كان يعرف أنه يريد الذهاب الى سورية، وانه كان يتحدث دائماً عن الإسلام، مشيراً الى أنه لم يسبق له «ان شاهده في المسجد يصلي فيه يوماً». لذا لم يستغرب احد قول الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند، بعد الجريمة، «إنّ الحرب على الإرهاب ستكون طويلة». ألم يقل الرئيس الأميركي باراك أوباما كلاماً مشابهاً قبل أشهر؟
أجل، أنها حرب طويلة. فهي، خلافاً للحرب النظامية بين الدول، تخوضها قوى الأمن ضدّ أفراد، غالباً ما يكونون مجهولين، متواجدين في كلّ البلدان وكلّ الأمكنة والأزمنة، وقادرين بأدوات فتك بسيطة ارتكاب جرائم فظيعة.
هذه الظاهرة المعضلة تطرح سؤالاً ملحاحاً: ما العمل؟
لتكوين جواب مقنع تقتضي الإحاطة بملاحظات ومعطيات بالغة الأهمية:
ـ الإرهاب ليس عملاً فحسب بل هو ثقافة ايضاً. ثقافة العنف شائعة في كلّ مكان، تعلو وتيرتها وتهبط نتيجةَ عوامل دينية وسياسية واقتصادية واجتماعية.
ـ الإسلام ليس بالتأكيد ديناً إرهابياً، كما يحلو لغلاة المتعصبين في الغرب و«إسرائيل» أن يلقوا في روع العالم. والإرهابيون المسلمون ليسوا متديّنين بالضرورة بل يتشدّقون غالباً بالإسلام إما للتغطية او للتبرير او بدافع الجهل والتعصب.
ـ ثمة دول وحكومات تستعين بتنظيمات إرهابية لتحقيق أغراض سياسية أو اقتصادية، وانّ هذه العلاقات لا تمنع بعض التنظيمات الإرهابية من الارتداد على مشغّليها لأسباب عقيدية او لحملها على زيادة أجورها.
ـ إنّ سلوكية بعض التنظيمات الإرهابية، ولا سيما «داعش»، تشير الى انها ضدّ العالم كله وتحارب النظام العالمي الراهن الآخذ في الترهل والانحلال.
ـ إن الأسلوب العسكري النظامي قد فشل فشلاً ذريعاً في مواجهة الإرهاب، ولا سيما الإرهاب الداعشي، وإنّ استمرار اعتماده من قبل الدول المعنية بمحاربته سيجعل الحرب ضدّه طويلة ومُكلفة.
في ضوء هذه المعطيات يمكن استشراف ثلاثة مناهج لاعتمادها في مواجهة الإرهاب:
أولها، ضرورة قطع الدول والحكومات المتعاونة مع التنظيمات الإرهابية كلّ صلة او دعم لها فوراً وبلا إبطاء، وإعلان الإرهاب عدواً للجنس البشري والعالم بقرار من الجمعية العامة للأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومنظمة الأونيسكو والفاتكيان والأزهر الشريف ومرجعيتيّ النجف وقم.
ثانيها، ضرورة اجتراح أساليب وخطط غير تقليدية في مواجهة الإرهاب تكون مقرونة بمجهودات ثقافية لتربية الشباب تربيةً مدنية ديمقراطية مغايرة.
ثالثها، ضرورة أن تجترح هيئات المجتمع المدني لنفسها دوراً ثقافياً واجتماعياً في مقاومة الإرهاب، محلياً وإقليمياً ودولياً، وإقامة مؤسسة أهلية عالمية بميزانية وازنة وأجهزة فاعلة لمواجهته كونياً بمنهج طويل النَّفَس، مفعماً بقيم ومفاهيم ومواثيق إنسانية متجدّدة وصالحة لبناء نظام عالمي جديد.
والمناقشة مفتوحة…