مصر بعد اتفاق تمهيدي مع «صندوق النقد»: نيات الحكم تحت المجهر

إنعام خرّوبي

ربما يكون ما حدث في الثلاثين من حزيران عام 2013، شكل لحظة سياسية تأسيسية فارقة في تاريخ مصر الحديث، توازي بمستوى التطلعات التي رافقتها تلك التي واكبت انعقاد مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي بعدها بعامين، الذي عُدّ، بدوره موعداً تأسيسياً، على المستوى الاقتصادي. حدث، رأى فيه البعض حينذاك انتصاراً لـ «ثورة يناير»، فيما رأى البعض الآخر فيه انتقاصاً من تلك الثورة.

الإشكالية في المشهدين السياسي والاقتصادي في مصر، تكاد لا تختلف في شيء عن واقع الحال خلال «الموجات الثورية» السابقة، أو حتى العهود الرئاسية «الغابرة». الجدل الراهن بشأن «بِشارة» توصل القاهرة إلى اتفاق مبدئي مع «صندوق النقد الدولي» بشأن الحصول على قرض بقيمة 12 مليار دولار، على فترة تمتد ثلاث سنوات، بواقع أربعة مليارات دولار سنوياً، يكاد يختصر المشهد السجالي في مصر حالياً، سواء على صعيد النخب السياسية والاقتصادية، أو على صعيد أهل الحكم.

منذ اللحظة التي خلعت فيها المؤسسة العسكرية على نفسها دور «الحاضنة الثورية» لجماهير الثلاثين من حزيران عام 2013، أصبح الكلام عن شرعية الرئيس السيسي محلّ نقاش وأخذ وردّ. ومنذ اللحظة التي قدِمت فيها الوفود من العواصم الأجنبية لحضور مؤتمر شرم الشيخ الاقتصادي في آذار عام 2015، بدأ المراقبون قياس المسافة بين تصريحات المسؤولين المصريين، وعائد السياسات الاقتصادية على المواطنين، بحيث يشكك بعض هؤلاء المراقبين في ما أعلنته الحكومة المصرية بشأن عقدها اتفاقيات خلال المؤتمر المذكور تقارب قيمتها 130 مليار دولار، لا سيما أنّ قيمة الجنيه المصري قد سجّلت تراجعات متتالية منذ ذلك الحين، وأنّ حجم الدين العام لمصر ما انفكّ يتصاعد، فيما لا يبدو الوضع المالي للبلاد «وردياً» على ضوء تناقص احتياطيات البلاد من العملات الأجنبية، ومستويات العجز الملحوظة في ميزان المدفوعات وأرقام الموازنة ومعدّلات التضخم الذي وصلت نسبته إلى حوالى 14 في المئة، كمعدل قياسي هو الأكبر خلال سبع سنوات، فضلاً عن وصول الدين العام المصري إلى ما يقارب المئة في المئة من الناتج المحلّي الإجمالي في العام المالي 2015-2016.

وفي حين يستند مؤيدو الرئيس المصري إلى ما حققه الرجل من مشروعات «قومية» كبرى بقيمة إجمالية تقدر بتريليونين و40 مليار جنيه، بعضها أنجز، مثل مشروع توسعة قناة السويس الذي لم يحقق نتائجه المرجوة بعدما أظهرت الإحصاءات الرسمية نمو عائدات قناة السويس خلال الربع الأول من 2016 بمقدار 592.4 مليون جنيه فقط قياساً بالفترة عينها من عام 2015، على وقع انخفاض حجم التجارة العالمية، وبعضها الآخر قيد الإنجاز، مثل المشروع القومي لتنمية سيناء الذي يشمل إنشاء أكثر من 70 ألف وحدة سكنية في شبه جزيرة سيناء قبل نهاية العام المقبل والعمل على تنمية سيناء زراعياً وصناعياً، يذهب معارضوه إلى تحميله مسؤولية تزايد الضغوط المعيشية والاجتماعية، وبلوغ حالة الاحتقان والامتعاض الشعبي درجة غير مسبوقة منذ العام 2013. وهي ضغوط تتجلى بارتفاع مؤشرات الغلاء المتلاحقة، وتثبيت الأجور، فضلاً عن ارتفاع معدلات البطالة في أوساط الشباب إلى ما نسبته 40 في المئة. على هذا الأساس، تتعالى الأصوات، وبعضها من المحسوبين على الفريق المؤيد للرئيس السيسي، الداعية إلى «التغيير» والتعامل بأوجه جديدة ومختلفة من السياسات الحالية، المطبوعة بنهج أمني، على المستويات والأصعدة كافة، خصوصاً الاقتصادية منها.

تحيل بعض التحليلات واقع الحال في مصر حالياً، إلى الفترة التي سبقت «ثورة يناير»، فيما يذكِّر محللون بظروف ما قبل تفجُّر «ثورة يونيو»، ويعمدون إلى مقارنتها مع الظروف الراهنة، ليتبين لهؤلاء مدى استحكام واستفحال الأزمة بشقيها السياسي والاقتصادي، في «المحروسة» من جهة، واستعصاء «سكة» النظام المصري في البحث عن حلول، من جهة أخرى.

في الكواليس وعلى «الكراريس»، كلام حلو سحب «بساط الدعم» من تحت أقدام «المشير» من فريق الداعمين، داخلياً وخارجياً، لعلّ أبرزها ما بدا تلميحاً من بعض العواصم الخليجية مؤخراً، الأمر الذي استُبق بالحديث عن هبوط «زخات الرز» الخليجي على القاهرة، في الآونة الأخيرة.

الأمر دقيق للغاية، والوضع يشير إلى أزمة ما تلوح في الأفق، حتى أنّ السيسي نفسه، الذي كان قد اعترف بمساوئ ومضار «آليات السوق» على الشعب المصري، لا سيما الطبقة المحدودة الدخل منه، نجده اليوم يستعين بإحدى أبرز المؤسّسات المالية الدولية في نظام دولي قائم أساساً على اقتصاد «السوق الحر»، والمقصود به صندوق النقد الدولي.

الاتفاق المبدئي بين القاهرة والصندوق حول منح الحكومة المصرية قرضاً بقيمة 12 مليار دولار، يهدف إلى دعم الاحتياطي النقدي الأجنبي، الذي انخفض إلى مستويات خطيرة بعدما وصل إلى نحو 17 مليار دولار، وخلق مناخاً من شأنه تعزيز ثقة المستثمرين، بشكل أساسي، ودعم مسيرة التنمية وبناء المشاريع. وبحسب تصريحات صحافية لحاكم البنك المركزي المصري طارق عامر، يُعدّ الحصول على القرض من صندوق النقد الدولي «خطوة أولى نحو إنعاش الاقتصاد»، على اعتبار أنه «يسحب الذرائع» لعزوف المستثمرين الأجانب عن الاستثمار في مصر، منوِّهاً بامتلاك الحكومة المصرية القدرة والقناعة لتحسين الأمور، مع تشديده على أنّ «الإصلاح لن يأتي خلال يوم أو يومين».

جانب من الصورة السوداوية التي سوف تظلل المشهد المعيشي والاقتصادي في مصر، خلال الفترة المقبلة تمثلها الإجراءات الحكومية الصعبة التي سوف تعقب حصول مصر على القرض والتي من المرتقب أن تشمل خفض الإنفاق على الأجور الحكومية، وإصدار قانون الضريبة على القيمة المضافة، جنباً إلى جنب مع اتباع سياسة تخفيض مخصّصات الدعم لبعض السلع، كالمحروقات، وبعض الخدمات كالكهرباء. الجانب الآخر من تلك الصورة، عكسه تقرير حديث لوكالة «بلومبيرغ» صدر يوم الجمعة الفائت، شكك في أن تنجح خطوة القاهرة في اتّجاه صندوق النقد الدولي، في ما أسماه «القضاء على السوق الموازية للدولار»، حيث يُباع الجنيه بأقلّ من 30 في المئة من سعره الرسمي مقابل الدولار، لافتاً إلى أنّ الاتّفاق بشأن القرض يمهّد الطريق نحو سلسلة من التدابير والإجراءات التي يرجّح أنها سوف تشمل جولة جديدة من تخفيض قيمة العملة المحلّية، أو جعلها أكثر مرونة بما يحفّز جذب وضخّ الاستثمارات الأجنبية في اقتصاد البلاد، والأسواق المالية، منبهاً من تداعيات الإجراءات المُشار إليها على الطبقة الفقيرة، التي سوف تتحمّل تبعات ضعف الجنيه المصري وتقليص الدعم.

الأكيد أنّ الجدل بشأن لجوء القاهرة إلى أموال صندوق النقد الدولي من أجل حلّ مشكلاتها وأزماتها، سوف يبقى علامة فارقة في المشهد المصري في الأسابيع والأشهر القليلة المقبلة، فيما ستبقى نتائج هذا النهج الاقتصادي الخطر غير واضحة للعيان، قبل أشهر وربما سنوات، ويأمل كثيرون ألا تحمل معها أسئلة سياسية وأمنية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى