أبيض أسود… ملامح وأدوار
اعتدال صادق شومان
لطما كان انجذابنا إلى الصورة، بتكوينها الأوّل الأبيض والأسود وتدرّجهما الرمادي. لا يضاهى. ما هو سرّ سحرها الآسر؟ سحر بوميض ضوء نفتقده في الصورة الضاجّة بالألوان رغم سطوتها زهواً وسطوعاً.
صوَرُنا القديمة، ننبشها من مخابئها المبعثرة، نعود إليها بشوق وحنين، رغم مشقة هذه العودة ومحاذيرها على النفس ورغم الأعباء. نعاين منها الملامح القابعة في خوابي الذاكرة الراحلة، نعيد فرز ألوانها بصخب تلك اللحظة وبألفة المكان. نطرحها من جديد مرّات ومرّات، لتلامس منّا الروح في همسات نسيناها في زحمة العمر ولهاثه، وعبق ذكريات لم نجتزها قط، أبقيناها قضايا معلّقة على سدّة الزمن فحسب، ينصفها أو يدينها. ننصت لضحكات جلجلت يوماً على أرصفة عمر أضعناه على موانئ لم نزرها قط. نفتقد وجوه أحبة أو كانو أحبة، تلاشت ملامحهم وأصابها الاصفرار من علّة تقادم الزمن، والحب. نطلب الرحمة لمن غيّبه الموت. وندّعي تجاهل من شاء الغياب، قبل أن نعيد طيّها في الأدراج المنسيّة.
نظرات ناعسة، باحة البيت، شتلة الحبق، أمكنة تضجّ، أناس يروحون ويجيئون. صوَر، صوَر، أبيض وأسود، صدى أيام خلت لطالما ذكرناها بالخير. ولكن، مهما يكن من أمرنا ووَلَعنا بخصائص «الزمن الجميل»، أتى اليوم وآن الأوان لنرميه خلف المنافي الافتراضية، ونتعلّم تخطّي حاجز الأبيض والأسود، بعدما سقطت كلّ حواجزنا العاطفية، وتحتّم علينا الإقرار بسلطة العصر وأدواته وأقنيته في التواصل، كي لا نصبح خارج الإطار أو نرمى بتهمة التخلّف.
عبرنا عصر الصورة، وبالكاد أدركناه بأنفاسنا المتقطعة. فالزمن يافع وسريع، ومن أبرز سماته هيمنة الصورة. ما يعني سيادتها المطلقة، فارضة نفسها على الساحتين الثقافية والإعلامية، رغم أن الصورة ليست حالة مستجدّة في التاريخ الإنساني. حضورها من حضوره، وهي إحدى أولى وسائل التعبير عنده منذ زمن سكنه الكهوف، فسجّل أنباء انتصاراته ومغامراته على جدرانها. هي فقط اليوم أخذت بعداً مستجدّاً. فمن الحضور البسيط إلى موقع الهيمنة والسيادة الشاخصة بقوّة لا تقهر، تصل حدّ التطرف، ولها الكلمة الفصل في مجريات حياتنا. تمتلئ بها تفاصيلنا اليومية على مختلف شؤوننا، تتخطّى الخصوصية في بعض من أدائها، هاتكة المحظور في حالات خبثها. لا وهج يعلو وهجها. في كمائنها خطورة وأهمية في آن، كونها نصّاً مقروءاً مفتوحاً على اللغات قاطبة. هي نصّ قابل لإساءة التأويل. الصورة هنا، مقال لا رقابة عليه، هي بعض من رواية، هي تسجيل موقف يثبت حقيقة أو يسقط لغواً. وتعدّ الصورة من المكوّنات الأساسية في «السلطة الرابعة» الحديثة. وتتفوّق عليها أحياناً، وتستمدّ تفوقها من قوّة منحتها إياها سيطرة وسائل التواصل الاجتماعي في العالم. سوق الـ«سوشال ميديا» مكّنها في تشكيل ناصية المشهد، الممسك بتوجهات الرأي العام، باعتبارها محور التأثير. في يدها البوصلة تسدّد اتجاهاتها كما تشتهي رياحها وسفنها، تُرسيها برّاً، أو ترميها وسط تلاطم الأمواج العاتية. لها المنبر والكلمة الناهية، وهي أيضاً محض عاطفية بامتياز.
هذه الصورة نفسها دخلت بروباغندا الحرب في زمن متأزم بالحروب والصراعات. ومع بروز التنظيمات الإرهابية تحوّلت الصورة إلى سلاح فعّال فتّاك استراتيجياً، لخدمة أهداف هذه التنظيمات في ترسيخ صورتها في العالم ككيان إرهابي استثنائي في عالم الجريمة والوحشية، من خلال تجسيد إجرامه كأبشع صورة قد تعرفها البشرية جمعاء.
في زمن دخول مفردات جديدة على عالم الصورة توازياً مع الثورة الإلكترونية المتصاعدة باستمرار، وتعاظم حدّة بهرجها وانبهارنا به، أضف سرعة انتشارها وما طرأ عليها من تحوّلات لجهة انشغالنا القديم بالنسخة الأصلية. لتختلف اليوم في أصول ولادتها. فما عادت الصورة الفوتوغرافية تخرج من «الغرفة السوداء». فمن تمازج كيمياء الضوء والظلال، إلى ولادة جديد معزّزة بالكاميرا الرقمية وجهاز الكومبيوتر، ومنهما تستمد قيمتها الخاصة وتميّزها بوصفها صوراً يسهل الوصول إليها أو تخزينها. تحرّرت أخيراً من الصناديق القديمة المرمية في رفوف الأمكنة المنيسة في غبار أسود وأبيض.
مهنة التصوير التي بدأت بما عُرف بالتصوير الشمسي، من المهن الشعبية الجميلة، امتلكت حضوراً واسعاً ومتألقاً، بدأ في أوائل القرن العشرين، إلى قبيل نهايته. وسُمّي بالتصوير الشمسي لاعتماده على إضاءة الشمس. مصوّر ذلك الزمن استخدم الأبيض والأسود فقط وطَبع الصورة، وأجرى عليها الرتوش بقلم خاص على «نيغاتيف» الصورة، يوم كان يضع أمامه آلة التصوير ذات الرداء الأسود إلى جانب بعض الأغراض من ضروريات الديكور، متل الجاكيت الرسمية وربطة العنق وشتلة ورد، المظلات، والطربوش الأحمر عندما كان موضة زمانه. يُدخل المصوّر رأسه في الصندوق، وقُبيل التقاط الصورة يُصدر للزبون أوامره الصارمة برفع الذقن، أو الابتسام، أو كتم النَّفَس حتّى، ثم: واحد اثنان… ثلاثة، و«تفقع» الصورة. فيتنفّس الزبون الصعداء.
التصوير بالأسود والأبيض شغل زمن ما يقارب 35 سنة قبل اكتشاف التصوير بالألوان. الصورة التي خُمّرت في «الغرفة السوداء»، تلقفتها تقنية التصوير الحديثة، ليصار تطويرها لناحية الشكل والوزن. فمن كاميرا ضخمة الحجم مُتعبة في طريقة حملها على ظهور المصوّرين، إلى إطلالة جيل جديد من آلات التصوير، صغيرة الحجم، سريعة المعالجة، ومزوّدة بوميض ضوئي «فلاش» وعدسة مكبّرة للأبعاد. واكتست حلّة ملوّنة، وانتقلت من مجال العمل الاحترافي والمهني، لتصبح أداة سهلة في يد جمهور مهووس بالتقاط صور الـ«سِلفي وكلّ العالم خلفي»!
في البدء، كان الفضل في ظهور هذه الكاميرا لما قدّمه علماء كثيرون، منهم هنري فوكس تالبوت الإنكليزي عام 1830، الذي تمكّن من الحصول على صورة موجِبة من سالبٍ زجاجيّ بوساطة محاليل كيماوية، لا بغمس السالب الورقيّ في الزيت ليصبح شفّافاً بعض الشيء. وأيضاً العالم كلارك ماكسويل الذي فتحت أبحاثه الباب لإنتاج الفيلم الأبيض والأسود ولاحقاً الملوّن.
قبل ذلك، ولعصور طويلة بعد بطليموس، كان العالم يظنّ أنّ العين ترى بوساطة أشعّة تنبعث من العين نفسها. لكن الحسن بن الهيثم، هو أوّل من قال إن العين ترى طبقاً للشعاع الساقط عليها. وشرح هذا مع جلّ مبادئ علم البصريات الذي أسّسه في كتابه «المناظر»، الذي صدر في بغداد عام 1021، وتُرجم بعدئذٍ إلى اللاتينية ثم إلى الإسبانية والإيطالية والفرنسية والإنكليزية، وشكّل المرجع الوحيد في هذا العلم طوال قرون عدّة، والأساس الذي بنى عليه علماء الغرب تصوّراتهم وإنجازاتهم في علم البصريات. من هذا، تأتي كلمة «كاميرا» أو «قمّرة»، الكلمة ذات الأصل العربي التي تعني: الحجرة شديدة الظلام. وشكّل ذلك العلاقة الأخيرة للعرب بالتصوير، حتى قام الغرب بتطويره في العصر الحديث. كما كان ذلك الصلة الأخيرة للعرب بالصورة كفكرة قابلة للتطوير، ولا مكان يذكر للصورة في العالم العربي، ونادراً ما نجد أيّ أرقام مضبوطة تخصّ تاريخ التصوير فيه، لغياب الجهات المختصة من جهة، ولعدم التجاوب مع هذا الفنّ أحياناً كثيرة، لأسباب تتعلق بعلاقة العرب بالصورة من الوجهة الدينية.
وظلّت الصورة في العالم العربي تُختَصر بمشاهد فوتوغرافية عدّة أكثر من كونها مشهداً فنّياً متكاملاً. طبعاً تبدل «المشهد» اليوم، وبدأ العالم العربي يزخر بعدد من الأسماء في عالم التصوير، وفي اختصاصاته كافة، ومنهم من سطع نجمه.
وصارت للصورة عند العرب معارضها. وتقام لها في دول الخليج المسابقات وتُرصد لها الجوائز القيّمة التي تصنّف الأغلى في العالم لناحية قيمتها المادية.
وتجدر الإشارة إلى أن الصورة الأولى التي التُقطت، كانت في مصر في الرابع من تشرين الثاني عام 1839، وكانت للوالي محمد علي باشا داخل قصره في الاسكندرية. أي بعد حوالى ثلاثة أشهر من اختراع الكاميرا على يد الفرنسي لويس داغير. وكانت هذه الصورة السبب في انتشار فنّ التصوير في مصر على يد المصوّرين الأجانب الذين انطلقوا من مصر إلى سورية بحملات استكشافية، بتشجيع من الدول الأوروبية، على الأخصّ فرنسا وبريطانيا، على أبواب اندلاع الحرب العالمية الأولى ، لم تكن كلّها بريئة بطبيعة الحال. كانت في غالبيتها عذراً لاستكشاف المنطقة والتجسّس، ولرسم خرائط لإحدثيات المنطقة الجغرافية كما أثبتت الأيام في ما بعد. ومن المعروف أنّ هذه الخرائط اعتمدها الجنرال اللنبي في هجومه على الأتراك من بوابة فلسطين عام 1918 خلال الحرب العالمة الأولى.
هكذا، في ظلّ التحضيرات للحرب العالمية الأولى بقيادة أوروبية، عرفت بلادنا الصورة، وكان دخول الكاميرا إلى فلسطين ونشوء المدرسة الأولى لتعليم التصوير الفوتوغرافي في مدينة القدس، على يد الأسقف الأرميني ساي غرابيديان أواخر القرن التاسع عشر، ليتخرّج فيها مصوّرون ما لبثوا أن حلّوا مكان المصوّرين الأجانب. ومنهم: الأخوان غرابيد وكيفورك كريكوريان، وخليل رعد الذي يعود له الفضل في حفظ التراث الفلسطيني، فمع صوره اختلفت الحكاية الفلسطنية عما نسجته رواية المصوّرين الأجانب. وكانت صوَره مرجعاً وسِجلّاً يوثّقان لحياة الشعب الفلسطيني ونضاله قرابة سبعين سنة قبل النكبة، وبالأسود والأبيض نرى الجنرال اللنبي يدخل القدس أواخر عام 1917، ونشهد التظاهرات المعادية لـ«وعد بلفور» في تشرين الثاني 1919، والاضطرابات التي توالت في يافا والقدس عند اندلاع ثورة 1936. تحضر فلسطين في الصورة بمدنها وسهولها ومعالمها الثابتة والتاريخية.
إلى جانب القدس، استقبلت حلب وبغداد وبيروت المصوّرين الأوربيين الجوّالين الذين اختاروا تصوير الآثارت والمقامات الدينية، والمرافئ الحيوية، أكثر من تركيزهم على حياة الناس بتفاصيلها اليومية، وهنا نستثني قلّة منهم. غير أنهم اختاروا الرحيل في غالبيتهم، واستقرّ عدد منهم في لبنان، وفتحوا «دكاكين تصوير» بحسب لغة ذلك العصر. بعدئذٍ، جاءت الهجرة الأرمينية الكبيرة إلى هذه المدن على إثر المذبحة التركية بالشعب الأرميني عام 1915 مع بداية الحرب العالمية الأولى، لتساهم في انتشار مهنة التصوير بشكل واسع، وبات الأرمن منذ مطلع العشرينات، آباء التصوير الفوتوغرافي، وعلى الأخصّ في مدينتَي بيروت وطرابس، وباتت غالبية الصو!ر الفوتوغرافية موقّعة بأسمائهم، صرافيان، وارطان ديرونيان،، فاهيه، وآرتين .
في هذا السياق، حاول عدد من الباحثين إعادة نبش تاريخ الصورة في لبنان وتوثيقه من أجل الإضاءة عل ما عُتّم عليه من شوؤنها. ومن أبرزهكم الباحث بدري الحاج ومؤلَّفه «ضوء على ورق»، ومنهم أيضاً الباحث فؤاد الدباس.
والثابت بحسب المصادر الموثوقة، أنّ البداية مع الرعيل الأول من المصوّرين الذين التقطت عدساتهم الصور الأولى لبيروت وغيرها من المدن اللبنانية، مع الرحلتين الأوليين اللتين سلكتا طريق الشرق القديم عام 1839 بقيادة هوراس فيرنيه وتلميذه غوبيل فيسكيه، والثانية بقيادة بيار جولي دولوبينير.
أقام فيرنيه وفيسكيه مدة قصيرة في مصر وفلسطين ثم عبرا جبل لبنان، وقد التقطا صوَراً فوتوغرافية لجبل لبنان عام 1843، ونشر الأخير هذه الصوَر على شكل رسوم محفورة في كتاب «رحلة هوراس فيرنيه إلى الشرق». وعام 1844 وصل إلى جبل لبنان فيليبير جيرو دو برانجي الخبير في الهندسة المعمارية، والتقط صوراً كثيرة للآثار والمباني. والتقط صورة كبيرة لبيروت من الباخرة، وصوَراً لبعلبك وفقرا والأرز.
وبحسب الباحث اللبناني فؤاد دباس كما ورد في كتابه «مصوّرون فوتوغرافيون في بيروت»، أن الاستديو الأول افتتح في بيروت عام 1845 للفرنسي تيودور ليوف الذي خلفه ابنه أندريه، ثم الإيطالي تانكراد، ليبقى أبرزهم في تلك المرحلة. افتتح المصور الفرنسي شارل بيزيه محله في سوق الطويلة. أهمية بيزيه أنه أنتج ألبومات عدّة عن بيروت، قبل أن تصبح الاستديوات موضة العصر، ففي عام 1868 عرفت بيروت استديوات عدّة.
قدّم لبنان المصوّر فيلكس بونفيس وكان له أبلغ الأثر في تطوير التصوير الفوتوغرافي. يومذاك جمع ونشر «كاتالوغين» ضخمين حملا عنوان «ذكريات من الشرق». ضمّ الأوّل 400 صورة، والثاني 650 صورة شملت بيروت وفلسطين.
وتعتبر الليدي كابانيس بونفيس على خريطة الاستديوات في بيروت، من أهم النساء اللواتي احترفن التصوير الفوتوغرافي. وبعد وفاة بونفيس تابع العمل في الاستوديو أدريان بونفيس الابن، وعمل معه بعض المصوّرين أمثال رومبو، قيصر حكيم، وجورج صابونجي. وكوّن معهم ألبوماً ضمّ 1600 صورة ومنظر. لتتوالى بعده الأسماء والصوَر.
مع تسجيل الدور الأكبر للمصور لويس صابونجي، خصوصاً أنه المصوّر الفوتوغرافي الأول من سورية، في وقت كان التصوير حكراً على المصوّرين الأجانب. ويقول العلّامة فيليب دي طرازي، إن لويس أيضاً أوّل من أدخل فنّ التصوير الشمسي إلى بيروت، وكاد يكون مجهولاً قبل ذلك الحين، فعلّمه لأخيه جرجس الذي برز في هذه المهنة. درس صابونجي فنّ التصوير الفوتوغرافي في مدينة روم، وهو أيضاً صاحب مجلة النحلة التي أسّسها في لندن عام 1877.
عندما عاد لويس من روما إلى بيروت عام 1863، لقّن شقيقه جرجس فنّ التصوير الفوتوغرافي، فكان الأخير ضمن فريق عمل المصوّر الفرنسي الشهير فيلكس بونفيلس كما مرّ معنا. والمصوّر فيلكس بونفيلس قدم إلى لبنان عام 1867 مع عائلته، وأنشأ استديو للتصوير في بيروت قرب القنصلية الفرنسية، ومن بيروت انطلق مع فريق من المصوّرين في رحلات تصويرية إلى أنحاء مختلفة من سورية ومصر وتركيا واليونان، حيث التقط آلاف الصوَر. واستعان بونفيس بفريق من المصوّرين كان من أبرزهم هنري رومبو وقيصر حكيم وجورج صابونجي.
هذه «نيغاتيف» صورة بالأسود والأبيض تكوّنت في «الغرفة السوداء» الأكثر اضاءة، لمبدعين سطّر أسماءهم التاريخ بصفحته الأنصع بياضاً، كروّاد في تطوير التصوير وإثراء العالم بالكاميرات مختلفة الاستخدام، ليجعلوا لحظاتنا ملوّنة بألوان الطيف الطبيعة.