الحسم السوري العراقي مع سلطان الوهم
ناصر قنديل
– أدركت واشنطن منذ فشل حربَيْها في العراق وأفغانستان أن أول ما يجب أن تتعلمه هو التقيد في حركتها العسكرية بحدود التغطية القانونية الشرعية، فربطت تدخلها بليبيا بتغطية مجلس الأمن، وتردّدت كثيراً بالتدخل في سورية لغياب هذه التغطية بعد الفيتو الروسي الصيني المزدوج. واكتفت بتشكيل التحالف ضد داعش باتفاقياتها مع الحكومة العراقية، وتقيّدها بعدم التورّط باستهداف الجيش السوري في عملياتها الجوية في سورية، وعندما فعلت ذلك في غارة دير الزور سارعت للاعتذار ووصف ذلك بالخطأ، ولو من باب اللعب السياسي، وحصرت عملياتها بداعش على قاعدة تفادي التصادم العملي مع الدولة السورية، التي وصفت الدور الأميركي بغير الشرعي، لكنها لم تطور الموقف إلى التصادم، وأظهر الأميركيون حرصاً على التوصل للتفاهم مع موسكو على التنسيق العسكري باعتباره نوعاً من الشرعية المستمدة من اتفاقيات روسية سورية تضفي شرعية نسبية على هذا الدور الأميركي، ولم يخف وزير الخارجية الأميركية جون كيري امام وفود المعارضة السورية في لقائه بهم في نيويورك، وفقاً للتسجيل المسرب عبر الـ»نيويورك تايمز»، عجز حكومته عن التصعيد أسوة بروسيا، لأنها لا تتمتع بالتغطية القانونية الشرعية للتدخل التي تملكها موسكو.
– تصرفت تركيا مع حادث إسقاط الطائرة الروسية بصلف، لم تعتمده واشنطن في غارة دير الزور، حتى يخال المراقب أن تركيا هي الدولة الأعظم في العالم. وعندما عادت تركيا ذليلة تعتذر لموسكو وتتوسل إعادة العلاقات، حاولت مراكمة سلوكيات تمنحها وضعاً خاصاً عسكرياً في سورية ولاحقاً في العراق، مرة تحت شعار الحرب على الإرهاب، الذي تعلم أنقرة ويعلم العالم دورها في رعايته وتوفير شروط الحياة والقوة لتشكيلاته. ومرات تحت شعار الأمن القومي التركي، المرتبط هو الآخر مرة بالدفاع عن جاليات تركمانية في سورية والعراق، وهم مواطنون سوريون وعراقيون، تحشر أنقرة أنفها في سورية والعراق بحجة مسؤوليتها عن أمنهم ومستقبلهم. ومرة بملاحقة المجموعات الكردية المسلحة في العراق، ومنع قيام شريط كردي حدودي بين سورية وتركيا، تنمو فيه جماعات كردية مناوئة لتركيا، لكن أنقرة رفضت كل مساعي تفاهم سياسي عرض عليها من موسكو وطهران لضمان هذا المفهوم لأمنها وصد المخاطر التي تتهدده، عبر التعاون مع الحكومتين السورية والعراقية، وأصرّت على مفهوم حق التدخل من وراء ظهر الحكومتين ورغماً عنهما، فتختبئ تحت عنوان التحالف الذي تقوده واشنطن ضد داعش، ولما تيأس من فرص التغطية، تجاهر بالبلطجة، والزعرنة، والقول العلني إنها ستفعل ما تراه مناسباً، وتتطاول على سيادة الدولتين بذريعة ظروفهما الداخلية وادعاء عجزهما عن الإمساك بجغرافيا بلديهما ما يضطر أنقرة لتفعل ما يحتاجه أمنها، في هذه الجغرافيا الفالتة والسائبة بنظرها. ومعلوم أن التفلت والتسيّب قد حدثا برعاية تركية رسمية بفتح الحدود للجماعات المسلحة التي تعبث بأمن البلدين.
– خلال الشهر الماضي اتبعت الحكومتان السورية والعراقية خطوات متدرجة في التصدي للمشاغبات التركية، وفي مواجهة العبث الذي يمارسه سلطان الوهم العثماني الذي تذكر ولاية الموصل وولاية حلب، وسناجق السلطنة، وسرّبها في خطابه العلني. فبعدما فتحت الحكومة العراقية حرباً دبلوماسية على التوغل التركي وفازت بالحصول على دعم مجلس الأمن الدولي لسيادتها، وبرفع الغطاء الأميركي عن ادعاءات أنقرة بالعمل تحت راية التحالف الدولي، وجعلت الوجود التركي عارياً من أي غطاء، ولوّحت بمقاومة شعبية وطنية لهذا الوجود كاحتلال أجنبي، بينما أصدرت الحكومة السورية بداية بياناً حذرت فيه تركيا من انتهاك أجوائها، ثم بعد الغارة التركية التي تسبّبت بمجزرة بحق المدنيين من أكراد سورية، أعلنت القيادة العليا للقوات المسلحة عن عزمها إسقاط أي طائرة تركية تدخل الأجواء السورية، بالتزامن مع إعلان روسي عن تزويد سورية بصواريخ أس 300 رداً على تهديدات أميركية بعمل عسكري ضد الجيش السوري، بعدما بات واضحاً أن أي توغل تركي يحتاج لغطاء جوي، خصوصاً مع مدى المعارك التي يستعدّ لها الأتراك شمال سورية، تحت اسم درع الفرات ويتخذون داعش ذريعة والأكراد هدفاً، بينما يضعهم التقرب أكثر على تماس مع خطوط انتشار الجيش السوري وعلى أطراف مدينة حلب بما لها من قيمة استراتيجية.
– بالأمس نفّذ الجيش السوري أولى الغارات على مواقع عملاء الأتراك الذين يعملون تحت مسمّى الجيش الحر، وعملية درع الفرات، وفي قلب الاشتباك البري بين درع الفرات والمجموعات الكردية، قال الجيش السوري إنه سيتصدّى لكل تقرّب تركي من مواقع حلفاء الجيش السوري، معيداً للجماعات الكردية صفة الحلفاء، بعد فترة جفاء تسبّبت بها الرهانات الخاطئة للجماعات الكردية على الأميركيين، الذين خذلوهم في جرابلس وفاوضوا على فروة رأسهم مع الأتراك، كما حاول نائب الرئيس الأميركي جو بايدن أن يفعل بالعراقيين في مفاوضاته في أنقرة، وأفشله العراقيون بثباتهم عند خطوط السيادة ورفض ما أسماه بايدن بالتفاهم. وبالتزامن مع بدء سورية بترجمة الردع الميداني للزعرنة التركية، قام الحشد الشعبي العراقي بالإعلان عن بدء تقدّمه تحو تلعفر، التي تشكل ظهير مدينة الموصل غرباً، ويريد داعش عبورها باتجاه الحدود السورية، والتي تتواجد فيها أكبر نسبة من التركمان الذين يتخذهم الأتراك إحدى ذرائعهم لتدخلهم، كما يتخذون من دور الحشد الشعبي والتهويل بمخاطر حرب طائفية يتسبب بها تدخله، ليصير الامتحان التركي الآن مكلفاً، إما ركوب الرأس نحو توسيع التدخل لتصير نصف حرب، وربما حرباً كاملة، أو الانكفاء وارتضاء الخيبة، والوقوف عند حدود انتشارهم الراهنة، التي ستفقد مشروعيتها ومهابتها، ويصير بقاؤها مسألة وقت.
– المبادرتان السورية والعراقية، تنمّان عن تنسيق عالٍ بين البلدين بلا ضجيج، وعن تنسيق بينهما وبين الحليفين الروسي والإيراني، وعن القيمة التي تعنيها السيادة الوطنية للقيادتين، والشجاعة الوطنية التي تتّسم بها في ظروف صعبة، قرارات بحجم الاستعداد لتأديب أردوغان كأزعر يعبث بمعادلات أمن المنطقة وحدود دولها، ويستبيح مفاهيم السيادة ويستخفّ بهيبة الدول ورموزها وجيوشها وشعوبها.