«حقوق الإنسان» والأسماك «الزبَّالة»
نصار إبراهيم
تابعت خلال اليومين الماضيين وباسترخاء كامل نقاشاً «ممتعاً» جرى في مناسبتين:
الأولى: استجواب رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي في مجلس العموم البريطاني بتاريخ 25 تشرين الثاني 2016، ما لفت نظري في تلك النقاشات مستوى تنظيمها وأناقتها، ومستوى حرية التعبير وطرح الأسئلة، بحيث بدا الأمر وكأنني في المدينة الفاضلة. لا أدري وأنا أستمع صامتاً لماذا تذكرت النقاشات التي كانت تشهدها ساحات روما قبل ألفي عام ويزيد، روما ذاتها التي أبادت وأذلت شعوباً وجماعات بكاملها تحت شعارها الشهير «سلام روما» Pax Romana.
الرجال والنساء الأنيقات في مجلس العموم البريطاني كانوا بالضبط يرفعون شعار»Pax Britain» ، فالسيدة تيريزا ماي وفي أول خطاب لها 18 تموز 2016 أعلنت أنها لا تمانع في الموافقة على توجيه ضربة نووية قد تؤدّي إلى مقتل مئة ألف شخص مدني.
تيريزا ماي كانت تتحدث وكأنها القديسة الأم تيريزا، كانت تتحدث وتجيب بشغف وحيوية وحساسية على كلّ الأسئلة التي تطرحها الأفواه الثرثارة الكبيرة في مجلس العموم البريطاني وكأن ليس لهم أيّ علاقة بكلّ تاريخ بريطانيا الاستعماري، ليس لهم علاقة بمقتل مليون عراقي منذ عام 2003 بسبب كذب طوني بلير، ليس لهم علاقة بتدمير ليبيا وسورية واليمن، وليس لهم علاقة بالتراجيديا والكارثة الفلسطينية المستمرة منذ 100 عام… مهمتهم فقط أن يحاضروا ويثرثروا عن الديمقراطية وحقوق الإنسان والحرية، وفقط مطلوب من الضحايا أن يستمتعوا وأن يفتحوا أفواههم من الدهشة إعجاباً بأساتذة «حقوق الإنسان» في العالم «المتحضر».
الثانية: النقاشات التي تدور منذ يومين في المجلس العالمي لحقوق الإنسان وفي مجلس الأمن الدولي حول «الكارثة الإنسانية في حلب التي تتحمّل مسؤليتها الدولة السورية وروسيا الاتحادية».
بصراحة وأنا أستمع لهذا الكمّ من الكذب والنفاق شعرت بالغثيان والقرف… كان مندوبو الدول القاتلة يتبارون على البكاء والندب والتهديد دفاعاً عن المدنيين السوريين المحاصرين في حلب الشرقية تحت رحمة التجويع والقصف الذي ينفذه الجيش السوري وروسيا… المشكلة أننا لا نرى هذه الحمية إلا حيث يستوطن الإرهابيون… بينما لا نراها ولا نسمع عنها حين يتعلق الأمر بنضالات الشعوب المقهورة والمضطهدة، أما المجازر والجرائم وحرب الإبادة التي تقوم بها الدول الاستعمارية فتلك تندرج تحت بند التدخل من أجل الدفاع عن «حقوق الإنسان» مما يستدعي الصمت والمباركة والشكر الجزيل، هكذا جرى تدمير ليبيا باسم الدفاع عن الحرية وحقوق الإنسان، هكذا يجري تدمير اليمن وقتل أطفالها منذ سنتين دون أن يحرك ذلك ساكناً عند موظفي الدرجة الممتازة في لجان حقوق الإنسان، تلك اللجان التافهة التي لا ترى 360 ألف إرهابي تمّ حشدهم على مدار أكثر من خمس سنوات ومن كلّ أنحاء الدنيا لقتل الشعب السوري وذبحه، دعاة حقوق الإنسان هؤلاء لا يرون الإرهابيين في شرق حلب، هم يرون فقط الجيش العربي السوري.
جوقة حقوق الإنسان هذه لا يرفّ لها جفن أمام جرائم جبهة النصرة وداعش والجيش الحر وفصائل الذبح المتواصل في سورية منذ خمس سنوات ونيّف، إنهم يتحرّكون فقط حين يضيّق الجيش السوري الخناق على هؤلاء القتلة…
كما لا يرى هؤلاء الموظفين الطفيليين من الدرجة الأولى والثانية والثالثة في منظمات حقوق الإنسان المنتشرة كالفطر كما لا يجرؤون على اتخاذ موقف جدي حاسم ضدّ القتل والتدمير الإسرائيلي بحق الشعب الفسطيني المستمرّ منذ عقود طويلة…
ما تقوم به لجان ومجالس حقوق الإنسان تلك يذكرني بـ«الأسماك الزبَّالَة» التي تقتصر وظيفتها دائماً على السباحة في قعر البرك وأحواض السمك لتنظيفها من فضلات الأسماك الأخرى.
هذا بالضبط ما تقوم تلك اللجان التي دائماً تنتظر إلى أن تنتهي المجزرة التي يقف وراءها أو ينفذها في العادة الدول الاستعمارية والناهبة لتقوم بعدها بتنظيم حفلات النعي وتنظيف الميدان وتقديم العون للضحايا…
وبالمناسبة تلك اللجان حريصة دائماً على التوثيق لتثبت كم هي صادقة وأمينة ولا تلقي القول جزافاً، كالتقاط الصور مثلاً أو الفيديو وتصوير «كراتين الإغاثة» وإظهار شعارات الدول المانحة التي هي ذاتها الدول القاتلة، بل ويحرص موظفوها وبشدة على التقاط لحظة المعاناة لطفل أو امرأة أو ضحية وهي تنزف أو تلفظ أنفاسها الأخيرة تحت الأنقاض… فليس المهم أن تموت، المهم أن يتمّ توثيق لحظة الموت… فمتى نفهم لعبة الموت هذه!؟ متى نقول لهؤلاء ومشغليهم: احتفظوا بدموعكم وإنسانيتكم لكم… واخرجوا من دمنا!