مئوية تصريح وعد بلفور المشؤوم
رامز مصطفى
«إنّ حكومة صاحب الجلالة تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل غاية جهدها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يكون مفهوماً بشكل واضح أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن ينتقص من الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين، ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في بلد أخر». التصريح الذي أرسله آرثر جيمس بلفور في الثاني من تشرين الثاني عام 1917، إلى روتشيلد اليهودي الصهيوني، قبل 99 عاماً من الآن.
اليوم، وفي مئوية وعد بلفور المشؤوم، علينا أن نتوقف أمام هذا التصريح بكلماته الـ 117، زوّر تاريخ وجغرافية منطقة بالكامل، وأدّت مفاعيله إلى اقتلاع شعب من أرضه من دون حق أو سند قانوني أو أخلاقي، ليُزرع مكانه شعب آخر، عُمل على استجلابه من كلّ أصقاع الدنيا برواية زُيّفت بمعنييها التاريخي والديني. وهذا ما دفع المؤرّخ الكبير ارنولد توينبي إلى الإعلان انه «كإنكليزي يشعر بالخجل والندم الشديدين على ازدواجية المعايير الأخلاقية التي حكمت سلوك حكومة بلاده في الإقدام على هذه الفعلة المنكرة».
علينا تتبّع السياق التاريخي الذي أوصل إلى تبني حكومة بريطانيا هذا التصريح، منذ ما قبل أن تقوم بريطانيا الاستعمارية بوضع فلسطين تحت سلطة وصايتها، الذي ومن المؤكد أنه جاء بهدف تسهيل سيطرة الحركة الصهيونية وقطعان المهاجرين اليهود على فلسطين.
فبعد أن حُسمت السيطرة داخل الحركة الصهيونية لجناح الصهيونية السياسية بقيادة الصهيوني تيودور هرتزل، تمّ تحديد الخيارات الصهيونية، ومفادها أنّ حل المسألة اليهودية لن يتمّ بالهجرة والاستيطان فقط، وإنما أيضاً بمساعدة واعتراف دوليين. ولأجل حسم هذه الخيارات وتكريس توجهها في السيطرة على فلسطين، كانت الحركة الصهيونية قد عقدت 11 مؤتمراً لهذا الهدف. وهذا ما عبّر عنه هرتزل في المؤتمر الصهيوني الثالث عام 1899 بالقول: «تتجه مساعينا صوب الحصول على براءةٍ في ظلّ سيادة صاحب الجلالة السلطان العثماني. وحين تصبح هذه البراءة في حوزتنا، شرط أن تشتمل على الضمانات القانونية العامة اللازمة، يمكننا آنذاك الشروع في استعمارٍ عملي واسع النطاق. وسوف نجلب للحكومة التركية منافع كبرى لقاء منحها إيانا هذه البراءة».
وفي عام 1908 قدّم الوزير البريطاني هربرت صاموئيل، وهو سياسي بريطاني يهودي، وأول مندوب سام بريطاني في فلسطين، مذكرة اقترح فيها تأسيس دولة يهودية في فلسطين تحت إشراف بريطانيا شارحاً ما ستجنيه بريطانيا من قيام هذه الدولة في قلب العالم العربي والقريبة من قناة السويس.
وسبق صدور تصريح بلفور الذي شكّل محطة رئيسية في تاريخ الاستيطان الصهيوني، وبالتالي القضية الفلسطينية، في سياق الحرب العالمية الأولى، بأسبابها وأهدافها، حيث عقدت خلال الحرب العالمية الأولى عدة لقاءات سرية بين الحكومة البريطانية وزعماء الحركة الصهيونية للوصول إلى اتفاقٍ بشأن منح فلسطين لليهود. ولإعطاء جرعة قوية لهذه المحادثات، وتشجيع ساسة بريطانيا الاستعمارية نشر حاييم وايزمان رسالة في تشرين الثاني من العام 1915 في صحيفة «المانشستر غارديان»، قال فيها: «إذا دخلت فلسطين ضمن منطقة النفوذ البريطاني، ووافقت الحكومة البريطانية على تشجيع إسكان اليهود فيها، فإنه يمكن أن يصير لنا فيها خلال عشرين أو ثلاثين عاماً نحو مليون يهودي أو ربما أكثر من ذلك فيشكلون حراسة عملية قوية لقناة السويس».
وخلال مجريات الحرب العالمية الأولى وتطوراتها التي اندلعت في العام 1914، طرأت تغييرات على أولويات الحركة الصهيونية باتجاه أن تكون فلسطين هي الوطن المنتظر، خصوصاً عندما دخلت السلطنة العثمانية الحرب إلى جانب ألمانيا. ولأجل ذلك كثفت الحركة نشاطها في كلّ الاتجاهات وخصوصاً لدى الدول النافذة، ولهذه الغاية بدأت مجموعة حاييم وايزمن عملها في لندن، وحاييم سوكولوف في باريس وروما، والقاضي لويس براندايس ومجموعة الصهاينة المقرّبين من الرئيس الأميركي ويلسون. ومن خارج رتابة المواقف المعلنة للولايات المتحدة الأميركية بعدم الإنخراط في التحالفات الدولية أو في النزاعات في ما بينها آنذاك، وجدت أميركا نفسها في خضمّ الحرب وأتونها عندما بدأت ألمانيا تُحرّض المكسيك بشنّ حرب على أميركا من أجل استرداد ولايات أريزونا وتكساس ونيومكسيكو، وذلك من خلال برقيات التقطتها بريطانيا كان قد وجهها وزير خارجية ألمانيا آرثر زيمرمان إلى نظيره المكسيكي، وقد عمدت بريطانيا لتسليمها للأميركيين الذين أعلنوا الحرب آنذاك على ألمانيا في نيسان من العام 1917. وهذا الإعلان الأميركي عن التدخل في الحرب قد لقي ترحيباً من بلفور الذي عبرّ عن ذلك بقوله: «إنها فرصة رومانتيكية لم أحظ بمثلها في حياتي كلها»، مما دفع بلفور ليُسارع الخُطى في السفر إلى أميركا، لتُشكل مناسبة في التأكد من تأييد واشنطن منح الحركة الصهيونية ما تصبو إليه وتبتغيه، وهذا ما طمأنه إليه القاضي لويس براندايس من أنّ الرئيس الأميركي ويلسون ينظر بعين الموافقة على أن تكون فلسطين تحت الحماية البريطانية. وهكذا تأكد بلفور بأنّ واشنطن مع إعلانه.
وبالتدقيق في هذا التصريح الوعد، نجده باطلاً للأسباب:
ـ أنه صدر في عام 1917، أيّ أنّ بريطانيا لا توجد أية صلة قانونية بفلسطين. وبالتالي احتلال بريطانيا لفلسطين حدث بعد صدور الوعد، ولأنّ قانون الاحتلال الحربي لا يُجيز لدولة الاحتلال التصرف بالأراضي المحتلة، ولأنّ الحكومة البريطانية أعلنت في مناسبات كثيرة أنّ الهدف من احتلالها هو تحرير فلسطين من السيطرة العثمانية وإقامة حكومة وطنية فيها.
ـ هذا الوعد أعطى فلسطين لليهود وهم لا يملكون أية صفة أو حق في تسلمها أو استيطانها أو احتلالها.
ـ والوعد ليس اتفاقية مع دولة أو كيانات دولية ذات سيادة، فاللورد بلفور مسؤول بريطاني، ولكنه لا يملك حق التعاقد باسم دولته. وبالتالي اللورد روتشيلد مواطن بريطاني صهيوني، ولكنه لا يمثل الطائفة اليهودية المنتشرة في العالم، وهي لم يكن لها شخصية قانونية دولية.
ـ الوعد أضرّ بالحقوق التاريخية والحقوق المكتسبة لسكان فلسطين، فهم موجودون منذ آلاف السنين، وقد اعترفت لهم الدول الحليفة المنتصرة في الحرب العالمية الأولى بحق تقرير المصير وحق اختيار النظام السياسي والاجتماعي الذي يلائمهم.
ـ والوعد يتناقض مع بعض المواد في ميثاق عصبة الأمم أو صك الانتداب، فهو يتناقض مع المادة العشرين منه والتي تنص على «أنّ جميع أعضاء العصبة يقرّون كلّ ما يعنيه، بأنّ هذا الميثاق يُلغي كلّ الالتزامات أو الاتفاقيات الدولية المتعارضة مع أحكامه. ويتعهّدون رسمياً بعدم عقد التزامات أو اتفاقيات مماثلة في المستقبل. وإذا كان أحد الأعضاء قد تقيّد، قبل دخوله العصبة، بالتزامات متعارضة مع أحكام الميثاق، فعليه اتخاذ التدابير الفورية للتخلص منها».
مع المئوية الأولى للوعد المشؤوم يجب ألاّ تُغرينا أو أن ننخدع بأية تصريحات لا تترافق مع أية جهود تبذلها الحكومة البريطانية لتصحيح الخطيئة التاريخية بمعناها القانوني والأخلاقي، وعليه فإنّ التطلع نحو قيام بريطانيا بأية خطوات تصبّ في هذا السياق ضربٌ من الخيال. وهذا ما أكده اللورد بلفور في مذكرة نشرتها وزارة الخارجية البريطانية بين 1919 1939، وفيها يعترف قائلاً: «ليس في نيّتنا مراعاة حتى مشاعر سكان فلسطين الحاليين، مع أنّ اللجنة الأميركية تحاول استقصاءها. إنّ القوى الأربع الكبرى ملتزمة بالصهيونية، وسواء كانت الصهيونية على حق أم على باطل، جيّدة أم سيّئة، فإنها متأصلة الجذور في التقاليد القديمة العهد، وفي الحاجات الحالية وفي آمال المستقبل، وهي ذات أهمية تفوق بكثير رغبات وميول السبعمائة ألف عربي الذين يسكنون هذه الأرض القديمة». وتلك التصريحات البائسة لا جدوى منها أمام جريمة ارتكبت في وضح النهار، وجرى تدبيرها في ليلة ظلماء عملت عليها القوى الاستعمارية والأنظمة العميلة لها.