كاسترو زعيم بحجم ثورة…
راسم عبيدات ـ القدس المحتلة
برحيل فيديل كاسترو يكون قد رحل آخر العمالقة السياسيين في القرن العشرين، فهو واحد من القيادات التاريخية التي يصعب على كلّ دول العالم، حتى التي اختلفت معه، أو ناصبته العداء، كأميركا وحركات التحرّر والشعوب المضطهدة والمظلومة، أن تتنكّر لكلّ ما حققه من منجزات وما تركه من إرث وتاريخ نضالي طويل، حيث كان له حضوره الطاغي في كلّ المناسبات والاحتفالات التي تقيمها فصائل وقوى المقاومة وحركات التحرّر، تسترشد بفكره وتستلهم تجربته وتتشرّب قيمه ومبادئه والنهج الذي اختطه واختاره لتحرير كوبا أرضاً وإنساناً، من ظلم وطغيان الإقطاعية والرأسمالية المتوحشة والمتغوّلة، التي حوّلت سكان جزيرة كوبا الى مجرد عبيد وخدم، في ظلّ حالة من الفقر والجوع المدقعين.
نعم انتصر كاسترو وحفنة من الثوريين، المالكين للإرادة والمتسلحين بالأمل والمؤمنين بعدالة قضيتهم، على نظام «باتيستا» الديكتاتوري عام 1959، ليقيموا جمهورية ثورية، تصبح رمزاً وعنواناً ومثالاً يحتذى به، لكلّ دول أميركا اللاتينية، على وجه الخصوص ولكلّ المطالبين بالحرية والعدالة والخلاص والانعتاق من نير الاستعمار والظلم والطغيان. ولعلّ الثورة الفلسطينية وخصوصا قواها اليسارية، كانت تنظر بمهابة شديدة لهذا القائد الثوري، الذي أصبح بفكره وتعاليمه وتجربته، بمثابة الهادي والنبراس لها. ولذلك، توثقت أواصر وروابط العلاقة بين كوبا في عهد كاسترو والثورة الفلسطينية. فكوبا، حتى ما قبل الثورة، كانت الدولة الوحيدة في أميركا اللاتينية، التي وقفت ضدّ قرار تقسيم فلسطين، لتتطوّر تلك العلاقة للمستوى الاستراتيجي، بين الثورة الفلسطينية، بكلّ مكوناتها ومركباتها السياسية وبين قادة الثورة الكوبية، حيث دعيت منظمة التحرير الفلسطينية لحضور احتفالات كوبا بالثورة عام 1970. ومن ثم جرت مصادرة محتويات المركز الثقافي الصهيوني، عام 1972 في هافانا، الذي استخدم لبث سموم الدعاية الصهيونية ضدّ شعبنا وثورتنا الفلسطينية. ولتصل الأمور إلى حدّ قطع العلاقة مع دولة الاحتلال، في التاسع من أيلول عام 1973. وعلى الرغم من شحّ وضعف إمكانيات كوبا، بفعل الحصار الأميركي الذي فرض عليها، إلا انّ كوبا لم تكن إلى جانب شعبنا وثورتنا معنوياً فقط، بل دعمت ثورتنا بالسلاح والتدريب والدورات العسكرية والمنح الدراسية للطلبة الدارسين في كوبا.
بانتصار الثورة الكوبية على يد كاسترو ورفاقه، أدركت أميركا أنّ حدود الثورة لن تكون فقط داخل الأراضي الكوبية، بل هي مثل النار في الهشيم، ستمتدّ لتطال كلّ دول أميركا اللاتينية. تلك القارة، التي تشكل حديقتها الخلفية وهي بمثابة المزرعة لها، تنهب خيراتها وثرواتها وتقف على رأس دولها أنظمة مغرقة في الديكتاتورية والاستغلال والتعفن والفساد، تخدم مصالح أميركا وأهدافها هناك. لذلك، سعت مباشرة ومن بعد انتصار الثورة الكوبية، إلى فرض حصار اقتصادي شامل على كوبا، من اجل إسقاط كاسترو وحكومته، عبر زعزعة أمن واستقرار كوبا الداخلي، من خلال الدعم العسكري والمالي، للقوى المضادّة للثورة. ومن خلال تململ وتمرّد الجماهير الكوبية على كاسترو وثورته، بسبب الفقر والحصار. لكن تلك الجماهير، رأت في هذا القائد الثوري بمثابة المنقذ والمخلص لها، وقفت الى جانبه وساندته، لأنها رأت فيه الوفاء والإخلاص والمنقذ والمخلص لها والمعبّر عن همومها وطموحاتها، في التخلص من استغلال ونهب قوى الإقطاع والرأسمالية واللصوص. وهي لمست التغيير الكبير على حياتها، من خلال ما أقرّه واتخذه كاسترو من قرارات وإجراءات، من شأنها تغيير واقعها الاجتماعي ورفع مستوى معيشتها وتحسين شروط وظروف حياتها الاقتصادية، من خلال مجانية التعليم والصحة ودورات محو الأمية وتأميم الشركات والمصانع الكبرى.
كاسترو، عندما قاد الثورة مع رفاقه، كان متشرّباً لمبادئها، مؤمناً بأنها قاطرة للتغيير. وأيّ تراجع عن ذلك، يعني الانتحار وضياع المشروع الثوري وحتى اندثاره. ولذلك، بقي صامداً وثابتاً على مبادئه ولم يتسرّب إليه ما تسرّب الى الحكام العرب، الذين تحمي أميركا عروشهم وتسلّطهم على رقاب شعوبهم بالحديد والنار، عقدة «الإرتعاش» السياسي المستديم في التعامل معها. لم تهزّه لا أزمة خليج الخنازير والتهديدات الأميركية باجتياح كوبا، فهناك من الحلفاء من وقفوا الى جانبه وبالذات الاتحاد السوفياتي، ليستمرّ الحصار الأميركي لأكثر من خمسين عاماً، من دون أن يقدّم كاسترو ورفاقه أيّ تنازل، لا على الصعيد السياسي ولا في المواقف ولا التراجع عن القرارات والإجرءات الاقتصادية الداخلية، أو التوقف عن التحريض على أميركا وعدوانيتها. بل وجدنا بأنّ أفكار وتعاليم ومبادئ كاسترو تزهر في أكثر من دولة، من دول أميركا اللاتينية، حتى في دول القارة الأفريقية: غانا وغينيا بيساو إلخ… التي أرسل لها كاسترو جنوداً وأسلحة للمساهمة في ثورتها، لإيمانه وقناعاته بتصدير الثورة.
لم يغيّر كاسترو قناعاته ومبادئه، أو مواقفه، كحال العديد من فصائلنا وأحزابنا العربية والفلسطينية، التي مع أول هزة، غادرت قناعاتها ومواقفها وتحوّلت من النقيض الى النقيض، حتى أنّ البعض منها أدان تاريخه…!
خمسون عاماً لم يتراجع، لكي تعلن أميركا عن تراجعها عن مواقفها وحصارها لكوبا، تلك هي المواقف التي تحترم وتجبر الآخر على احترامها. وليس الميوعة السياسية، أو الخوف والإرتجاف والهزيمة من الداخل، عبر استدخال ثقافة «الإستنعاج» والهزائم وتصويرها بأنها طرق واقعية من أجل استرداد الحقوق وصون وحماية الأمن القومي. تلك السياسة التي لم تجرّ على شعبنا وامتنا سوى المزيد من الذلّ وامتهان الكرامة وضياع الحقوق والاستعباد، حتى أصبح الجميع طامعاً في أمتنا.
كما صمدت كوبا، صمدت إيران في مواجهة الحصار لـ35 عاماً، لم تتراجع عن حقها المشروع في امتلاك برامج الطاقة النووية، فرض عليها حصار اقتصادي ومالي وتجاري ودبلوماسي أميركي وأوروبي استعماري غربي ظالم، بمشاركة العديد من البلدان العربية، لكن القيادة الإيرانية بقيت ثابتة على مواقفها وحقها في امتلاك الطاقة النووية، لكي تتراجع أميركا ودول الغرب الاستعماري المجرم، عن مواقفها وتوافق على توقيع اتفاق مع إيران يضمن حقها في استخدام الطاقة النووية للأغراض السلمية، مع رفع للعقوبات عنها بأشكالها المختلفة.
نعم رحل كاسترو جسداً، لكنه، كغيره من العمالقة الثوريين، ستبقى مبادئهم وكلماتهم ومقولاتهم حية وخالدة عند مؤيديهم ومريديهم وكلّ المضطهدين والمظلومين وكلّ التواقين للحرية والاستقلال.
Quds.45 gmail.com