سعاده الإنسان والزعيم من خلال رسائل حب من أنطون سعاده إلى أدفيك جريديني
عبد الوهاب بعاج
هل يحق لمن تصدّى لقيادة مجتمعه فكراً وسياسة وجهاداً أن تكون له حياة خاصة، يحبّ، يتمتع، يغضب، يشكو، يتألّم… كلّ هذه العواطف الإنسانية التي يتمتع بها الآخرون، أمحجوبة عن القادة الناذرين حياتهم للآخرين؟!
هذا السؤال ردّ عليه سعاده في رسائل بعث بها إلى من أحبّ لأول مرة في حياته عام 1937 1938، وفي هذه الرسائل تتدرّج قصة الحب بين الإعجاب والحب، بين الإقدام والتردّد نتيجة الوضع العام، والرغبة الشخصية بين الإنسان والزعيم.
هذه القصة ترويها ثمانية عشر رسالة نستعرضها مبيّنين مدى تطور العلاقة، ومدى تأثيرها على نشاط الزعيم في إدارة الحزب وسياسته.
الرسالة الأولى التي أغلبها استعراض لعمله في توجيه السياسة العامة وفق منظوره القومي، مع التلميح ببعض عواطفه ورغبته باللقاء، ويختم بـ «ذكريات الشوير لا تفارقني، لأنها أجزاء من نفسي، فإذا لم يكن في وسعي إلا الالتجاء إلى هذه الأجزاء وفيها العوض الوحيد، وفي هذه السطور بعض التفريج، وفي الجهاد بعض العزاء».
وفي الرسالة الثانية وضوح العواطف مع الجهد في شؤون الحزب، والأمران متلازمان كما في هذه الرسالة الجوابية على رسالة الحبيبة فيقول: قرأتها مرة ومرة، ونظرت إليها وإليك مرات، وعدت فقرأتها الآن من جديد لأنها حديثك. إنّ عملي في الجهاد كان لعهد قريب محاطاً بوحشة واسعة، ابدأ منذ الصباح منصباً بكلّ قواي، وبكلّ زخمي على معالجة شؤون الحزب والقضية وآوي آخر السهرة، وقد تطول إلى نصف الليل إلى غرفتي، فأضع رأسي في حضن وحدتي، وأعزّي نفسي بمثلي العليا، وأغمض عيني وأنتظر النوم»، ويتابع مبتهجاً ومؤملاً «أما الآن، فتؤنسني صورة أمامي، ورسالة الحبيب، ومتى عدت إلى وحدتي فليست الوحشة ما أشعر بل الشوق».
يعود للكتابة عن عمله ونشاطه الحزبي، ويقول لها: «أنت موجودة في كلّ ما أقول، أو أفعل، أو أكتب» وعندما تسأل عن صحته يجيبها: «أصبحت في حاجة إلى السؤال عنها، أنا نفسي لقد أهملتها، ولم أجتهد في تحصينها وحمايتها حين كان معنى الحياة لي إفناء فقط»، كلّ هذه المدة والعلاقة منحصرة بين الحبيبين وبعد اطمئنان القلوب يبدأ الإعلان للآخرين عن هذا الحب، ويبلغها بذلك طالباً صورتها لإرسالها إلى أخته كي تتعرّف إليها، ثم يخبرها بأنّ وضع الحزب قد تحسّن والعلاقة مع الحكومة أصبحت متينة، «وزال قسم من الضغط المستمرّ على أعصابي، وأصبح في إمكاني الاهتمام بصحتي واستعادة بعض النشاط، مما لا شك فيه أني تحسّنت قليلاً من هذا القبيل».
ولكن يبقى الهمّ الحزبي الذي يريد إشراكها به رغم عدم انتمائها للحزب، والحصول على رخصة العمل هماً… «وفي كلّ هذه المسائل والمواضيع افتقدتك، وأودّ لو كنت بقربي، لأنّ هناك ما أحتاجه إلى مساعدتك للحزم به». يعود للقول برسالته باثاً لواعج شوقه:
«إني بت أحب كثيراً فكرة السفر، أميل كلّ الميل إلى تحقيقها، اني أجد فيها إمكانية اجتماعنا سائحين مستقلين متوجهين معاً»… «وعندما أتأمل صورتك أمامي لا أبالي بأصوات السيارات والترام المتصاعدة من الشارع، او بضحك السماء، او بكائها».
يبدأ الرسالة الرابعة بالتساؤل الجزع: «هو ذا أسبوع آخر قد مرّ وأنا أتوقع في كلّ غروب شمس، وكلّ انبثاق فجر رسالة منك، حتى كدت أجزع عليك لهذا السكوت الطويل الذي لست أدري له سبباً». ثم يجيب عن تساؤله: «لعلّ أشغالك قد أصبحت كثيرة كأشغالي، وجهادك قاسياً كجهادي».
في هذه الرسالة أصبح واضحاً إشراك الحبيبة بأعماله التي هي شريكة فيها، «هذا الجهد الذي أصبح شرفنا مقروناً به».
بعد السنوات الأربع في تأسيس الحزب، وما تبعها من سجن وتعب، وبعد بعض الاستقراء أخذ الحبيب بعض الاهتمام بالراحة: «وأترك نفسي حرّة في مجال التأمّلات والأماني».
وأما السفر فهو الشغل الشاغل» لزعيم يراها ضرورية للقضية ولنا، ففي السفر نبتدئ حياتنا باختبار جميل، فأبتعد أنا عن ضوضاء العمل الإداري، وشواغله، وتبتعدين أنت عن ملل التدريس».
في هذه السفرة، يجول على الجاليات، يلقي المحاضرات، وينشئ فروعاً جديدة للحزب» وتساعدينني أنت مساعدة كبرى، ونعود بعد ذلك، وقد أضفنا إلى النهضة القومية الاجتماعية أسساً جديدة تسمح بزيادة البناء».
و«إلى تحقيق المثل العليا يدفع الحب الأنفس الكبيرة» «فلنشترك بهذا العمل الكبير اللائق بما يجول في نفوسنا» هو الحب في نظره.
مع العمل والاستعداد للسفر «الذي لا بدّ منه لفتح طريق جديدة لنمو الحزب، وإيجاد الوسائل الكافية لتقوية مادياته ومعنوياته»، خاصة بعد انتظام العمل الإداري في الحزب، «هذه الحالة تمكنني من التفكير، والتخطيط، واستنباط الطرق، وتسمح لي بالافتكار بحبيبي النائي، وبالآمال التي اشترك معي في تصويرها». كما ورد في رسالته الخامسة، وعلى ما يبدو أنّ الحبيبة تعاني بعض مما لا تريد إشغاله بها من معوقات، الا أنه يقول لها: «اكتبي وصرّحي، فإني أضعف أحياناً، ولكن الضعف عارض، اما القوة فثابتة، لذلك فإنني أقدر على الفهم والاحتمال».
لا بدّ من السفر
هذه الرسالة السادسة المطوّلة، والمحتوية للعواطف الجياشة، الى جانب الأعمال الحزبية الكبيرة والمضنية، والتي ننقل بعض فقراتها مع الإشارة إلى أهميتها كاملة.
هذه الرسالة تبدأ: «حبيبتي، أخيراً وردت رسالتك الثانية لتجلو جواً كان تلبّد وادلهمّ، وجاء ترياقها قبل أن يكون العليل قد فارق».
«أما من حيث الحزب فقد فعلت حتى الآن ما يندر أن يفعله بشرٌ فرد في مثل ظروفي وظروف أمتي، وتمكّنت بشق النفس من التغلب على صعوبات جمّة، وردّ كيد الخصوم العديدين بوسائل قليلة جداً،
«ولكن الخصومة على الحزب آخذة في الازدياد بقدر ما يزداد الحزب رسوخاً وانتشاراً»، «وإذا كنت حتى الآن قد تغلّبت بوسائلي الشخصية وابتكاراتي، فإنّ اتساع نطاق العراك يوجب إيجاد أجهزة كاملة للإذاعة والإدارة والمهمات السياسية».
ولما كان تأمين الموارد المالية ضرورة لنشاط الحزب الإداري والإذاعي، فلا بدّ من السفر»، وهذه المهمة لا يتمكّن غيري من القيام بها على الوجه الأكمل».
«لا بدّ من إيجاد علاقات وديّة مع بعض الدول والشعوب، وإفهام الأمم العربية جمال نهضتنا، وسموّ أهدافنا، فيساعد ذلك كثيراً على إحلالها المحلّ اللائق بها بين قضايا الأمم». «فعلينا أن نفعل كلّ ما في مقدورنا لنحول دون سقوط أمتنا فريسة للمطامع الأجنبية».
«ولكنني أراها جيداً، وأرى الشباك التي تحاك حولنا في الداخل والخارج، فيجب عليّ أن أقطع هذه الخيوط وأحبط الدسائس وأجد المنفذ الأمين للحزب».
«أما من حيث ما يخصّنا، فإنّ حياتنا مقرونة بهذا العمل العظيم، ويجب أن تكون لنا القوة الكافية والإيمان الراسخ والعزيمة الصادقة التي تتطلّبها القضية وأعمالها».
«إني أحتاج لأن تكوني معي، وأن يكون لنا متسع من الوقت للتأمّل في جمال العالم، وينظر الواحد منّا في عيني الآخر من غير أن نكون مهدّدين بتراكم الأشغال، وازدياد الحاجة الملحة، وإنّ مسؤوليتنا كبيرة فيجب أن نكون كفؤاً لها».
في الرسالة السابعة وبعد تأكيد القلبين من اتحادهما والفكرين من توافقهما، يبدأ فيها بنشر خبر حبه إلى أخته وأخيه، ويعلمها بوجوب إرسال صورتها إليهم، كما يخبرها بحصوله على فترة نقاهة بين الصنوبر وذكرياته معها، ويؤكد لها قرار السفر منتظراً موافقتها، من كتاب يحمل البشرى «عسى أن تكون الماما – والدة الحبيبة قد كفت عن ذرف الدموع ورأت أن تشجعنا بدلاً من أن تثبط عزائمنا». هنا يظهر الصراع بين المفهوم القومي الاجتماعي للحب والارتباط بين المفهوم التقليدي الرجعي، حيث ميشال الأخ للحبيبة يظهر على جانب «الماما» ودموعهما مفتشاً عن شروط تأمين سعادة للأخت التي اندمجت بفكر وعقل الحبيب الذي خاطبهما برسالته هذه بقوله:
«كم أنت طيبة يا حبيبتي، وما أطيب نفسك، وإني أقدّر كلّ التقدير الموقف الذي تقفينه، انه موقف يتعلق بأحد الاختبارات غير العادية في الحياة، وهذا ما يزيده تعقيداً، فظروفي ليست ظروف رجل استسلم للحالة الراهنة، وأخذ يعمل لتوفيق نفسه معها».
وبينما ميشال يطلب أن يكون الحب والارتباط بالزواج تفاهماً مع الأهل، وليس مع صاحب الشأن، وهذا ما يخرج ذوي الشأن من تقرير ما يخصّهم ويجعله بيد الغير.
«وإنّ المسألة في نظري ليست مسألة سعادتي، او سعادتك، فنحن قد نكون أبعد الناس عن التفكير بهذه السعادة العادية الهادئة المستكينة المرتكزة على مثال أعلى يتألف من فراش ومقاعد مثيرة، ومعاش جيد».
«إنما هي مسألة حصول السعادة بتمازج نفسينا في سبيل مثال أعلى من نوع آخر يختلف كلّ الاختلاف عن هذه الصور العادية الهزيلة التي لا ترفع شعباً، ولا تنقذ أمة».
«إننا نحتاج إلى القوة والإعطاء، أكثر مما نحتاج إلى الضعف والأخذ»، ويختم سعاده هذه الرسالة الثامنة بجرعة مقوية فيقول: «لا تجزعي لشيء، وثقي بنفسك، وكوني قوية دائماً، فإنه لا يتغلب المرء إلا بالثقة والقوة».
تأتي الأمور في الرسالة التاسعة بين الهجوم الفجّ والجارح من جهة ميشال، وبين التصميم والتحدي بين الحبيبين، لهذا أصبح من الضروري «أن نسعى نحن الاثنين لتسوية كلّ ما يتعلق بنا، وبحياتنا المقبلة».
وفي الردّ على التساؤل المبرّر للسفر يكتب سعاده في هذه الرسالة «على افتراض أنّ السبب الأهمّ هو الحب، فما هو المانع؟ أليس شريفاً ونبيلاً أن يسافر الإنسان في سبيل الحب؟ وأن يفعل كلّ شيء في سبيل الحب، الا إهمال الواجب القومي؟»
إنّ ثمة فرقاً بين الحب والزواج، «فالحب هو الرابطة الأساسية لا الزواج، والزواج يكمل الحب ولا يكمل الحب الزواج».
إذن بدأت معوقة سفر الحبيب «ولست أريد أن أتخلى عن فكرة السفر معاً، إلا إذا كانت هذه الفكرة غير ممكنة بالمرة لك».
«الحب يجوز أن يفعل الإنسان في سبيله كلّ مستطاع من أجله هو في ذاته»، وقد تبيّن صدق حبها وعزمها فكان جوابه «إنّ ما تعلنين عنه عزمك على سلوك التحدي هذا المسلك الوعر، فإنّ في هذا القول عزيمة صادقة ونبالة قصد تدلان على حب حقيقي» ولكن «فكيف وهو مقرون بمقاصد أخرى لا تقل نبلاً، وهو وهي قد أصبحا شيئاً واحداً هو هذا الكيان النفسي ذي الشقين، الذي تمازجت فيه العواطف والأفكار والإحساسات والمثل العليا، وأصبحت هيكلاً مقدساً مترابط الأجزاء».
سلوك التحدي
بعد ما تقرّر في الرسالة التاسعة من سلوك التحدي وعزمها ركوب الصعب جاءت الرسالة العاشرة تبحث في بعض التفاصيل المتمّمة للزواج، والذي تقترح فيه الحبيبة أن يتمّ في البصرة حيث الإقامة والأهل، أم في بيروت وبعدها السفر، هل يعقد الزواج دينياً أم مدنياً؟
بالنسبة لسعاده لا مانع من عقد ديني مبسّط ومدني حيث يسجل في سجلات الحزب السوري القومي الاجتماعي. إنّ تسارع الأحداث السياسية الدولية بدأت تشوّش على وضع الحبيبين، ومنها قيام حالات من الحروب، الأمر الذي يجعل التفكير بسفر الحبيبة يشكل صعوبة ومشاق لا قدرة على تحمّلها. فكان تردّد سعاده حين كتب لها: «فإنّ موقفي أصبح موقفاً اضطرارياً، لا خيار لي إلا إذا شئت التنازل عن هدفي الكبير»، «ولما كان السفر لأوروبا يجب أن يتمّ خلال شهر مما يجعل إجراءات العرس صعبة التحقيق هذه المدة»، «إذن يمكن أن نفكر في الاجتماع بعد رحلتي إلى أوروبا، وهي ستكون سريعة»، «إني آسف جداً للظروف المعاكسة، كأنّ حياتي يجب أن تكون دائماً تضحيات، ولا بدّ من سير الطريق حتى النهاية».
بعد عرقلة مراسم الزواج و السفر للحبيبين… تأتي الرسالة الحادية عشرة مقتصرة على الوداع مع العزم والتصميم على خط الحب والتضحية.
يقول سعاده: «وردتني أمس رسالتك الرقيقة الوداعية المؤثرة، وفيها عباراتك المشجعة الدالة على قوة إرادة وصدق عزيمة، التي سررت بها بقدر ما أثّر فيّ الوداع».
«لا بدّ لنا من الاعتصام بهذه القوة الخفية من أجل تحقيق مثلنا العليا، فالمحبة التي تقعد الإنسان عن طلب المثل العليا هي المحبة الأنانية الخاملة، أما المحبة الحقيقية فهي التي ترفع نحو المثال الأعلى وتقدر أن تتحمّل».
بنتيجة ما وصلنا إليه ونظراً للظروف القاسية أخذ التقصير في المراسلة يدفع بشكوى الحبيبة من الحبيب فكانت الرسالة الثانية عشرة، تبرّر ذلك بقول سعاده: «لقد مرّ دهر لم أكتب فيه إليكِ، ورسالتي الأخيرة كانت قصيرة، وأنتِ تشكين قصرها، فأنتِ تنسين أحياناً نوع حياتي، والمجهود العظيم الذي أبذله منفرداً لإقامة أمر لم يسبق له مثيل في وطننا، ولم يسبق لأمتنا اختبار فيه، فالمطلوب مني لا يقتصر على التفكير في مجموع العمل، واتجاهه السياسي، وخطوطه الكبرى، بل يتناول الاهتمام بالمسائل الفرعية والجزئيات، حتى الدقيقة جداً أو التافهة منها».
«ما أغرب الحقيقة، وما أشد تعقّد الحياة، وما أشدّ تفاعل العقل والعاطفة، وما أقصر الحياة، وما أبعد الطموح». تحمل الرسالة الشكوى من اعتلال الجسد، والنفس لهذا الجهد المضني الذي يكابده.
في الرسالة الثالثة عشرة يشكو سعاده أخطاء الجهاز الحزبي، وخاصة تحرير جريدة النهضة، حيث وردت فيها افتتاحية كانت قد تسبّب للجريدة والحزب «عراكا لسنا مؤهلين له»، ويقول «وكانت ثورتي شديدة بقدر ما كان انفعالي، فرفست سلة المهملات وباب الشرفة، فكسرت زجاجه».
إلى جانب توبيخه للعاملين في الجريدة، راح يحاول تهدئة نفسه بالتنزّه وحضور السينما، واللقاء مع مصطفى وعمر فروخ، حيث قدّم له مصطفى لوحة العرزال الفنية، وكان قد حمل رسالة الحبيبة فلم يفتحها وهو في ثورة غضبه ثم يطمئنها عن وضعه الصحي والنفسي ويتمنّى وجودها في هذا الوقت معه «أما أعصابي فقد ارتاحت اليوم، وكم تمنّيت أمس لو كنتِ هنا، إذن لآويت إليكِ وطرحت أعبائي جانباً ولو لفترة قصيرة».
« إني أشعر أنّ حياتي تكون تضحيات في تضحيات. هذا شعوري منذ زمن، ولكن سورية يجب أن تحيا وتنهض، وفي سبيل سورية يهون كلّ شيء».
وكانت الرسالة الرابعة عشرة مقتضبة، يشكو فيها عدم وصول رسالة الحبيبة كما يشكو من عرقلة وتأخير السفر، بسبب عدم وجود الأشخاص الذين يعتمد عليهم في إدارة الحزب بغيابه كما يعلمه أنه عمل على مساعدة الكاتبة مي زيادة لتخليصها من محنتها وذلك بالكتابة عنها والاتصال بكلّ الجهات الرسمية وغير الرسمية».
والرسالة الخامسة عشرة جاء فيها: «أفقت اليوم باكراً قبيل الفجر على صوت المؤذن، فأشجاني الصوت، وفكرت بكِ ملياً وتذكرت آذانك الذي أسمعتنيه في دينة الجرة ، وكم تمنيت لو كنتِ قربي في هذه الدقائق الملأى بالضعف أو بالقوة، أو لو كنت قربك أحيطكِ أنا نفسي بدلاً من أن تحيط بكِ صوري».
«التضعضع الواسع النطاق الذي حلّ بالحزب من جراء الاضطهادات المتوالية، وبعدي عن الإدارة مدة سنة ونصف سارت فيها الأمور كما أرغب، و كما لا أرغب، أوجب القيام بعمل واسع وخطة طويلة لإعادة الحزب إلى تقاليده، والقبض على أعنة الأمور، وكبح جماح من استيقظت أنانيتهم لتطغى على العقيدة والنظام».
كتب لها عن تنظيم الحزب ومؤسساته، وتطهيره من المفسدين والجواسيس، والاهتمام بالفرع السري الذي أنشأه، والفرع النسائي، ولكن الشكوى من عدم وجود الناموس الذي يحمل عنه بعض أعباء تنظيم الأوراق والردّ على بعض الرسائل، ومع ذلك يقول ملمّحاً «وسط هذه الشواغل أفكر بكِ دائماً، ولكنني أعود فأفكر بظروفي وبالمستقبل، فأرى الأمور معقدة، فهي قد تعقدت من جهتك، أيّ من جهة الماما وميشال، ثم من جهتي أرى أنّ الأمور تتعقد فأكتب لذلك»، «ولكننا يجب أن نكون أقوياء في سبيل سورية»، من الواضح والمؤكد اطمئنان سعاده إلى إيمان الحبيبة بالعقيدة التي يعمل لها والحزب الذي يقود، لذلك يشركها في كلّ همومه الحزبية، ويطلب دعمها وتأييدها وكأنها عضو منتمِ بمرتبة ناموس.
أما الرسالة السادسة عشرة فتبدأ بالتذكير بيوم عيد ميلاد الحبيبة فيقول: «كلما اقترب عيد ميلادك، كلما وددت لو أنك بقربي تسندين رأسك إلى كتفي، ونصغي معاً إلى نشيد الحياة والحب، وكم تمنيت لو أتمكن من الطيران إليكِ في محلّ هذه الرسالة. إنّ ذكرى ميلادك تجلب معها أمواجاً خفية من العواطف تحرّك أوتار القلب وتطمو على ضجيج الحياة اليومية».
تعود الرسالة لذكر نشاط الحزب وتهيئة خطاب شامل لتاريخ نشأة الحزب واختباراته الداخلية والخارجية يُلقى في ذكرى ميلاد الزعيم فيقول: «إننا بحاجة لوقت نرمّم فيه ما تهدّم من المعنوية العامة واستعادة الثقة بالنجاح القريب، التي كان الحزب قد فقد معظمها أثناء وجودي في السجن، وقيام أفراد على إدارته ليسوا أهلاً لإعطاء القدوة في الشجاعة والإيمان ورباطة الجأش».
في الرسالة السابعة عشرة: نحتاج إلى رباطة الجأش مع كتم الأنفاس، لأنه بدأت رحلة النهاية في هذه الرسائل.
«وردتني رسالتك الأخيرة الحلوة الحاملة وريقات نرجسية متناثرة يفوح شذاها على صغرها وقلتها، فقبلت هذه الوريقات التي لامست أناملك وشفتيك، وتنشقت طيبها الرامز إلى طيب أنفاسك، وقد سمعت خفقات قلبك يجاوب ضربات قلبي في هدأة الليل في غرفتي».
«لقد لاحظت في رسالتك هذه تساؤلاً ينمّ عن خشية فعجبت لهذا التقارب في الفكر والإحساس بيننا… هل ممكن أن يزول كلّ ما بيننا يوماً ما؟ «كم كنت أودّ لو أنّ ما بيننا بلغ إلى غايته قبل أن تداهمنا مثل هذه الخواطر، إنّ ما بيننا لا يمكن أن يزول، ولكن تساؤلك يجاوب تساؤلي عن الحقيقة والاصطلاح، عن الحب والزواج، عن الحياة والتقاليد».
المصاعب الكبيرة
«إنّ مجرى حياتي الخاص آخذ في إيقاظي إلى المصاعب الكبيرة التي تقف في طريق زواجي ممن أحب، وكأني أريد الإفلات من هذا الأمر حين عرضت عليكِ أن نسافر معاً، فقامت الصعوبات من جهة أهلك، والآن أرى الصعوبات تقوم من جهتي، فأبديت شعوري في عبارات ضمّنتها بعض كتبي السابقة إليكِ، كقولي ما أغرب الحياة وقولي كأنّ حياتي يجب أن تكون تضحيات في تضحيات كلا يا حبيبتي إنّ حبك لا يزيله من قلبي رؤية النساء الجميلات من بنات أمتي، فقد كنت أرى جمالهن قبل أن أجتمع بكِ، ولكن حياتي وحياتك والجمع بينهما… هذا المسألة»، وقبل أن تنسى من هو، وما دوره يذكرها بمسؤوليته عن نهضة الأمة، وقسمه على وقف نفسه لوطنه وأمته سورية.
«إني سعيد يا حبيبتي لأنّ الرابطة بيننا لم تكن مجرد الرغبة في الزواج، فأنا لم أكن رجلاً يبحث عن عروس، بل كان الحب، وحبكِ فقط هو الذي جلب إليّ فكرة الزواج التي كانت بعيدة عني كلّ البعد، إذ كنت بكليّتي لقضية أمتي، لا أفكر إلا بها ولا يصحبني سوى خيالها، فلما اجتمعت بكِ وتحاببنا وفكرت في الأمر قلت في نفسي سيكون لي شريكة في هذا التفاني القومي».
«لم يترك لنا الظرف أن ندرس أوضاعنا، وفيما لو ابتعدت عنك سنة أو أكثر والصراع بين ما يقرّره القلب والعقل»، وتبريراً وإيضاحاً لما صارت إليه الأمور يقول لها: «حين أفكر في أمر زواجنا، لا أفكر إلا بكِ، فأنا قد اعتدت على الخشونة وتقلّب الظروف وسرعة الانتقال وتجشّم الأسفار وركوب الأخطار، أما أنتِ…
إنّ حياتي التي لا قرار لها قبل بلوغ القصد وتحقيق الرسالة»، وهل هي بالنسبة له، أم سورية محور حياته؟ يقول: «وأنا لا أستطيع الجزم بشيء سوى أني أحبك، ولكن حبّي لكِ ليس لنفسي، وليس هو محور حياتي، بل سورية هي المحور الذي تدور عليه حياتي وحبي».
«كلنا يجب أن نكون لسورية، لأنه قد جاء الوقت الذي إذا فات ولم نفعل شيئاً في سبيل حريتنا، فإننا ساقطون في عبودية شديدة طويلة، يجب أن نصبح أمة حرة، لكي يصبح الحب السوري حب أحرار لا حب عبيد، والحر لا يمكنه أن ينعم بحبه في العبودية».
تأتي الرسالة الثامنة عشرة والأخيرة بالقرار الجازم، والتي بعدها يعلن وقف الرسائل.
«هذا الكتاب ليس كالكتب السابقة إذ أنه سيتضمّن كلمتي في المستقبل»، «الآن أكتب إليكِ في مسألة مصير قضية، ومسألة أحداث نفسية، وتصادم عقليات، وأحوال، ومطالب، وعنعنات وعدم استقرار أمر، أو استتباب شأن ، لم أكن أدري ما هي مطالب الزواج، ولم تكن لي فكرة سوى عن الحب، وما أشدّ الفرق بين الحب والزواج».
«وقد رأيت بعد إتمام ما كنت قد عوّلت عليه من أمر الزواج، وليس هذا القرار الأخير مبنياً على موقف ميشال والماما، بل على تفكيري الجدي المستقلّ في ظروفي وظروفك، وفي الخطة التي رسمتها لحياتي».
«أودّ أن نبقى صديقين، بل إني أبقى صديقاً محباً تحت كلّ الظروف، ولا ننسى سورية، اقبلي من هذا البعد قبلة صادقة». ولتحي سورية
الختام
بعد اغتراب الزعيم وعودته في 2 آذار 1947 مع زوجته الأمينة الأولى وابنتيه، أقام في بيت يقرب من سكن الحبيبة الأولى التي تزوّجت في العراق، وأصبح لديها طفلان حين عودة الزعيم تجاهد للعيش بكرامة معهما، حيث والدهما فقد عام 1944. طلب الزعيم لقاء الحبيبة، فاعتذرت خشية أن «ينتفض الحب ويطالب بحقه في الحياة» حسب تعبيرها، وتضيف: كلما استعدت تلك المرحلة من فجر صباي شعرت بنشوة العز والانتصار…