لماذا قبل أوباما الهزيمة العسكرية في حلب ورفض التسوية مع روسيا؟
سومر صالح
حتى اللحظات الأخيرة للهزيمة العسكرية لحلفاء الولايات المتحدة في حلب، هنالك داخل الإدارة الأميركية، وهم حتماً من الصقور، من قاوم وعطّل إجراء تسوية عسكرية في المدينة تحافظ على ماء وجه تلك الإدارة أمام حلفائها، كما عطّل سابقاً إجراء تسوية «سياسية» للأزمة السورية، وقبل بالهزيمة العسكرية على إجراء هذه التسوية، وأطاح عمداً بمقترح كيري في روما 2/12/2016 ، وتعديل هامبورغ 7/12/2016 لذات المقترح حول إخراج المسلّحين من الأحياء الشرقية، الذي تمّ استبداله في حينها، ورأينا مؤشّرات جدّية في نصّ المسودة المعلنة في وسائل الإعلام، توحي بإمكانية صدوره حتى اللحظة الأخيرة ولكنّه عُطِّل أيضاً ضمن ذات السياق الذي وُئد به اتفاق جنيف 9/9/2016 في مهده واتفاق 15 تموز كذلك، ومن الصعب تحديد موقف الرئيس أوباما من هذا الصراع بين وزارة خارجيته وتحالف المخابرات والبنتاغون، فالرجل مرتبكٌ في تصريحاته حدّ الانفعال، ولكنّ السلوك السياسيّ لإدارته يوحي بأنّ أوباما في المرحلة الانتقالية قد استسلم لرؤية التحالف العسكري بين البنتاغون والـ CIA في الولايات المتحدة، فزيارة رئيس الأركان الأميركي لتركيا 6/11/2016 ، وزيارة وزير الدفاع الأميركيّ إلى العراق 11/12/2016 ، وإعلان الكرد مجلس سورية الديمقراطية حلفاء الولايات المتحدة على الأرض بدء المرحلة الثانية من معركة الرقة، وتشريع مجلس النوّاب لقانونين حول إمكانية فرض منطقة حظر جوي في الشمال السوري تشريع سيزر ، وقانون تزويد الفصائل المسلّحة بمضادّات طيران، تُرجّح هذا الافتراض وتعزّزه بحدثين يوضحان الهدف الأميركي المقبل، فتجاهل «التحالف الدولي» للأرتال العسكرية لـ«داعش» الهاربة من معركة الموصل باتجاه سورية، وإيقاف ذات التحالف قصف طيرانه لمواقع «داعش» في الرقة بالتزامن مع هجوم التنظيم الإرهابيّ لمدينة تدمر، يؤكّدان نيّة الولايات المتحدة في جعل البادية السورية نقطة انطلاقٍ أساسيةٍ للتنظيم في عمليّاته في سورية وخارجها، هذا التوجّه الأميركي عسكرياً رافقه توجّه سياسيّ رافضٌ التسويات السياسية والعسكرية في الأزمة السورية وآخرها تسوية «حلب» وفق الشروط الروسية، مع استمرار الإدارة الأميركية بعملية حماية «جبهة النصرة» من الاستهدافات الروسية حتى اللحظة بداعي عدم القدرة على فصل المعارضة المعتدلة عنها واقعياً، واقعٌ حاولت موسكو التأثير به من خلال الإيحاء بأنّ من سيبقون في حلب بجزئها الشرقي هم عملياً من المتشدّدين.
هذه المعطيات عن السلوك الأميركي تقودنا إلى استنتاجٍ مرتبطٍ بالسؤال المهم حول أسباب قبول إدارة أوباما الهزيمة العسكرية على حساب تسويةٍ عسكريةٍ كانت متاحةً لوقت طويل، وهو أنّ الإدارة الأميركية، بإقرارها بالهزيمة في معركة حلب الاستراتيجية، لم تقرّ بعد بهزيمة الحرب في سورية، وأنّها تجهّز لجولاتٍ من المعارك تُعيد التوازن في الناتج النهائي مع روسيا وفق شروطها لا شروط روسيا، وهنا نجد من الضرورة بمكان إعادة قراءة تهديد السيد دي ميستورا بأنّ روسيا «ستكون أمام أفغانستان جديدة، عالية الكلفة على كلّ الصعد، وارثةً بلداً ممزّقاً، مع حرب استنزاف طويلة» 30/11/2016 ، ولكن، قد يسأل سائل: إذا كان الخطاب الذي أبداه الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب هو خطاب «تقاربيّ» مع روسيا في سورية «وغير وديّ» مع «المعارضة» السورية، فما هي طبيعة المخطّط الأميركي الجديد؟ وكيف سينجح هذا المخطّط مع رئيس جديد؟ هنا تستغل صقور الإدارة الحالية رغبة «ترامب» في محاربة تنظيم «داعش» من جهة، ووجود تحالف استثنائي جمهوري وديمقراطي في مجلس النوّاب الأميركي من جهةٍ ثانية، للدفع باتجاه عسكرة السلوك الأميركي في سورية، من دون أن يكون صِداميّاً مع روسيا، فالهدف هو تجويف قيمة الانتصارات الحاصلة في سورية، والدفع بروسيا مستقبلاً لطلب التسوية مع الولايات المتحدة عبر استنزاف القوة الروسية من دون الصِّدام معها مباشرة وبغير وكلائها المعلَنين من المعارضة السورية، وهذا السيناريو يتعزّز حالياً عبر الدفع بالتعجيل في معارك الموصل لدفع أكبر قدرٍ من المجموعات «الداعشيّة» باتجاه سورية في تدمر، وليس الرقة التي هي هدف للعمليات العسكرية الأميركية المقبلة، ومن غير المستبعد نهائياً أن يقوم الرئيس أوباما في المرحلة الانتقالية الحالية بتكرار ما فعله أحد أسلافه من الجمهوريين، وهو جورج بوش الأب الذي ورّط خلَفه بيل كلينتون آنذاك بحرب الصومال قُبيل مغادرته البيت الأبيض 1992 ، عبر الدفع بالقوات الأميركية «بشكل محدود» إلى حرب الرقة في مواجهة تنظيم «داعش»، مستفيداً من الانتصارات على التنظيم في معارك نينوى، رأينا إرهاصاته في زعم البنتاغون قصف مقاتلاته محيط تدمر، تكون مقدّمة لتدحرج كرة ثلج التدخّل الأميركي أينما وُجد التنظيم الإرهابي في ظلّ تأييد رسمي أميركي استثنائي لصقور الحزبين الجمهوري والديمقراطي واللوبي «الإسرائيلي» المرحّب دوماً بهذه الفكرة. وهنا ننظر بعين الريبة إلى الأحداث الإرهابية التي وقعت في مدينة الكرك الأردنية 19/12 ، مسقط رأس الطيار معاذ الكساسبة، كمقدّمة ومنطلق لهكذا سيناريو، تناور من خلاله الولايات المتحدة على الابتزاز التركي، ولا سيّما بعد تسوية حلب، وربما كردّ فعل عليه، سيدفع التركي ثمنه لاحقاً في إدلب، وفي مقابل الانخراط الأميركي المتزايد تكون روسيا وسورية في مواجهة تنظيمَي «داعش» الذي بدأ يدقّ أبواب المنطقة الوسطى في سعيه للوصول إلى مدينة إدلب التي بدأت بعض الفصائل والتجمّعات المسلّحة بمبايعته هناك، وتنظيم «القاعدة» بأجنحته المتعدّدة في مدينة إدلب، مع جهود استخباراتيّة إقليميّة لرأب الصّدع بين تنظيمَي «القاعدة» و«داعش»، أمّا بقيّة الفصائل فهي بالعهدة التركية في ما يُسمّى «درع الفرات». وضمن هذا السيناريو، نقرأ امتناع الطيران الروسي عن قصف التجمُّعات الإرهابية في الأحياء الشرقية من مدينة حلب حتى اللحظة الأخيرة، فلو تدخّل الطيران الروسي في وقتها لكانت ذريعة لتطبيق تشريع «سيزر» وبوابة للدخول الأميركي عسكرياً في سورية تحت عنوان «منطقة حظر طيران» وما يحمله من تداعيات خطرة وحرجة، إضافةً إلى أنّ حسابات المواجهة الروسية لاحتمال أفغنة وجودها في سورية يقتضي عدم المواجهة مع تركيا، باعتبارها بوّابة الإمداد اللوجستي الأساسيّة للتنظيمات المسلّحة، ولا سيما في مدينة إدلب ذات الاتصال مع تركيا، فالمعركة هناك لن تكون سهلة فهي بوّابة الاستنزاف حسب الخطة الأميركية، وفي ذات السياق لو تدخّل الطيران الروسي في قصف الفصائل في الأحياء الشرقية لحلب لكانت ذريعةً للتدخّل التركي في مدينة الباب وبدفع أميركي، أمر تجنّبته روسيا، وتجنّبت معه الصِّدام مع تركيا موقّتاً، حسابات معقّدة قادت روسيا ممثّلة الحلفاء إلى إنجاز «تسوية حلب» مع الطرف التركي كبديل عن الأميركي، لإثبات نواياها وعدم رغبتها في التصعيد وسدّ الذرائع تمهيداً لمقبل الأيام، وما قد يحمله من مفاجآت، قد يكون أوّلها انقلاب أردوغان كعادته على تعهّداته لموسكو. فالإدارة الأميركية الحالية ومعها الكثير من صقور الولايات المتحدة، بما فيهم أسماء في فريق ترامب الرئاسي مع اللوبي الصهيوني ما زالت تقاوم تحوُّل روسيا إلى قطب دوليّ سياسياً وعسكرياً، وضمن هذا السياق أتى نعت أوباما لروسيا بأنّها دولة صغيرة وفاشلة اقتصادياً، في محاولة أخيرة منه للتأثير على رؤية الرئيس الجديد ترامب للتقارب مع روسيا، وخلق رأي عام أميركي مقاوم لتوجّهات الرئيس ترامب، لذلك يدور السلوك الأميركي حول تطويق هذا الصعود انطلاقاً من شرق المتوسط عسكرياً ومع محاولة تقويضه، فتحويل «إسرائيل» إلى أكبر قاعدة بحرية للأسطول الأميركي تأتي ضمن هذا التوجّه، وتعزيز التواجد الأميركي في العراق مجدّداً أيضاً ضمن ذات السياق والهدف.
لذلك، من المستبعد أن تشهد الأزمة السورية الكثير من الانفراجات مستقبلاً على صعيد الحلّ النهائي، مع التأكيد على أنّ معركة حلب قد حسمت شكل التسوية السياسية مهما ارتفع حجم الضجيج الأوربي، ودفنت بيان جينيف الأول 2012 ، إلّا أنّ المعركة مع الإرهاب وداعميه ومموّليه ما زالت طويلة وشاقّة، وعلينا الاستعداد لجولات من المعارك ضدّ الإرهاب لن تقلّ صعوبة وشدّة عن معارك حلب، وأخطر ما في السيناريوات القاتمة أن يحاول ترامب مواجهة إيران انطلاقاً من الجبهة الممتدّة بين سورية والعراق.