«تاريخ لبنان الثقافي» للدكتور كمال ديب… حاجة ملحّة في مكتبتنا الثقافية
اعتدال صادق شومان
الدكتور كمال ديب، الخبير الاقتصادي اللبناني ـ الكندي، باحث واختصاصي في الدراسات السياسية والاقتصادية. له عشرات الكتب في مواضيع اقتصادية واجتماعية، إلى جانب مئات الأبحاث في الشؤون الاقتصادية في مطبوعات عربية ودولية عدة، وسيصدر له قريباً كتاب جديد بعنوان «سورية في التاريخ».
حالياً، يشغل ديب منصب بروفسور في مواد الاقتصاد والثقافة في أكثر من جامعة كندية. ويُعنى بالسلم الأهلي، والدولة المدنية، ونظم الرعاية الاجتماعية.
صدر له مؤخّراً كتاب «تاريخ لبنان الثقافي من عصر النهضة إلى القرن الحادي والعشرين»، يستعرض فيه بمنهاج أكاديمي على مدى 15 فصلاً، القضايا الثقافية الأدبية في لبنان ورموزها، مع الإقرار بعدم إمكانية، لا بل استحالة، الإحاطة بالمسائل كافة والشخصيات كلّها التي شغلت المشهد الثقافي اللبناني ـ العربي في كتاب واحد.
وقد لقي هذا الكتاب اهتماماً كبيراً من وسائل الإعلام لفرادة موضوعه وشموليته. فـ«تاريخ لبنان الثقافي من عصر النهضة إلى القرن الحادي والعشرين»، كتاب مليء بأسماء شهيرة وكبيرة، أمثال جبران خليل جبران، طه حسين، أدونيس، إدوار سعيد، خليل حاوي والرحابنة، وغيرهم ممّن امتهنوا الالتزام الأدبي والمسرحي، من الذين قادوا الفكر الحديث سواء بخصوصية لبنانية، أو بخاصيّة «عروبية علمانية»، بما قدّموه من فنون جميلة ونتاج شعريّ وأدبيّ، وموسيقى ومسرح بما توفّر للبنان في القرن التاسع عشر، مقارنة بالدول العربية من بنية تحتية ثقافية، من مطابع ومعاهد ومكتبات من جهة، ولانفتاحه على أوروبا من جهة أخرى. وهذه الظاهرة امتدت إلى القرن العشرين بأفقه الحرّ، ما جعل من لبنان واحةً لمثقّفي العرب على اعتبار الحرّية شرطاً من شروط الإبداع والتعبير، وهذه الخاصّية وُجدت في لبنان، الأمر الذي جذب المثقفين العرب إليه، ولم يفقدها حتى في ظلّ الحروب، والأزمات لم تُلغِ دوره.
يتعامل الكتاب مع مصطلح الثقافة من خلال المقاربة الإبداعية، وأيضاً من خلال المقاربة الانترولوجية على اعتبار الثقافة عملية نتاج أدبي ـ فنّي، وبمعناها الأشمل تتضمّن أيضاً اللغة، العادات والتقاليد، التراث، والتطوّر التاريخي الذي يجمع شعباً أو جماعة على قطعة أرض.
يعتبر الكاتب أنّ عصر النهضة، قبل أن ينتشر في دنيا العرب، انطلق من المثلث الثقافي: بيروت ـ حلب ـ القاهرة، وعلى وجه الخصوص حلب التي كانت رائدة في الطباعة العربية، وآلات الطباعة يسيّرها رجلا دين هما الأب أثاتاسيوس دباس والأب عبد الله زاخرفي عام 1706. ثمّ انتقل الأب زاخر إلى ضهور الشوير وطوّر مطبعة بأحرف عربية. كما اشتهرت مصر في الصحافة العربية، واستفادت بيروت من انتشار مدارس الإرساليات التي ساهمت في تعليم اللغات الأجنبية، الأمر الذي سمح للّبنانيين بالاطّلاع على الأدب الغربي بلغته الأمّ.
الإشكالية التي ناقشها الكتاب، أنّ المثقفين اللبنانيين والعرب شهدوا ولادة النهضة ونقيضها، أي اتجاه النهضة واتجاه الرجعية، برفضه التعاطي التوفيقي الذي يجمع بين الديني والعلماني، والمحدث والتراثي. ومن غير المسموح أن نضع في سلّة واحدة بطرس البستاني وجبران خليل جبران وشبلي الشميل وفرح أنطون مثلاً، مع جمال الديني الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا. ومردّ رأيه أنّ الدعوة إلى الماضي لا تشبه الدعوة إلى الحياة المدنية والنهضوية التي حاكت الحواضر الأوروبية، بالعودة إليها كانت النطفة التي ولّدت بعد عهود تيارات متشدّدة من إخوانية وسلفية.
وفي الكتاب أكثر من استعراض لكتاب أنطون سعاده «الصراع الفكري في الأدب السوري»، لزوم المقاربة الفكرية، لما يعتبره الكاتب من أهم الكتب التأسيسة في هذا المجال، وقد ترك أثراً كبيراً على الشعراء في مرحلة الخمسينات من القرن الماضي، خصوصاً أدونيس وخليل حاوي.
من جهة أخرى للمؤلف، جولة مع مفكّرين لبنانيين وعرب نالوا حيّزاً واسعاً من الكتاب على خلاف البعض الذين كان المرور على نتاجهم خاطفاً أمثال الأديب سعيد تقيّ الدين وهو صاحب مؤلّفات عدّة ومنها مسرحيات ومذكّرات، فناله «التغييب»، وسُجّل على الكتاب «التقصير»، ولا يكفي تبرير الدكتور ديب في مقدّمة كتابه بالقول: «إنّني أقدّم اسماء اخترتها من بين مئات الأسماء كأمثلة لثيمات محدّدة كانت هي أهمّ من الأسماء ولم يكن الهدف أبداً الشمولية أو الموسوعية». لأنّ إرث سعيد تقيّ الدين الكبير والمتنوّع من الفلسفة والمسرح إلى الاجتماع والسياسة والقومية والنضال والعقائدية هو في صلب الموضوع الذي يناقشه المؤلّف في كتابه.
وفي الفصل الخامس من الكتاب الآداب 2 ، استوقفنا اختيار المؤلف فقرة من كتاب أنطون سعاده «الصراع الفكري في الأدب السوري»، وتحديداً من فصل «تخبّط وفوضى» المتعلق بآراء أنطون سعاده بأدب مخائيل نعيمة حول «تفوّق الروح الشرقية».
نصّ سعاده كما ورد في الكتاب:
«هذا كلام إذا ما أزلت منه زخرف التعبير الأدبي الشعري لم تجد فيه حقيقة واحدة غير جهل في شؤون الحياة وتطوّرها منذ ظهر الإنسان على مسرح الطبيعة وجهل التاريخ وفلسفة التاريخ. فالشرق لعلّة طبيعية على الأرجح حاول تحسين الخليقة كما حاول الغرب تحسينها من بَعد. ولذلك نشأت الأديان في الشرق، أي لتحسين الخليقة. وقد حسّنت الأديان الخليقة تحسيناً كبيراً ولا شكّ، ولكنّها عصت كل تحسين جديد نشأ بعد إحكامها. فأصحابها لا يقرّون بمعرفة جديدة إلا مكرهين… ولست أعتقد أنّ تعاليم بوذا ولا تسو أنشئت بقصد منع التفكير في تحسين الخليقة، ولكن العقلية الشرقية التي عجزت عن حلّ قيود الروح المادية بنظرة الحياة والكون فاهمة هي التي وقفت عند أحكام الفلسفات الدينية وتعليلاتها الافتراضية المسندة إلى قوة أكبر منها بحسب قول نعيمة حدّدتها تلك الفلسفات تحديدات متباينة.
إن صوفية نعيمة الهدّامة التي أبرزها في إحدى خطبه في بيروت عام 1932 بقوله إن القوة هي في الأمم العاجزة المستغنية عن التسلّح وإن كان استغناؤها قهراً أو كرهاً ، وإنّ الضعف هو في الأمم المستكثرة من آلات الحرب قد نبذتها سورية ولا تفكّر في جعلها مثالاً أعلى لها». لينتهي سعاده إلى القول: «إنك لو جمعت جميع الأقوال والآراء المتقدّمة وأمثالها لما حصل لك منها غير اضطراب في الفكر وتشتّت في الشعور بحرمانك إدراك حقيقة الأدب عموماً والشعر خصوصاً، ورسالة الفن»… انتهى الاقتباس.
فالمؤلف يعتبر أنّ سعاده في صلب موقفه هذا يؤكّد على ضرورة الالتزام الأدبي وأولوية المضمون في الأدب الفكري، وهو في ذلك منحاز إلى الثقافة الغربية. ما كان واضحاً ليست فقط آراؤه في الأدب، بل في مجمل أفكاره العقائدية التي استندت إلى الفلسفة الأوروبية في القومية ونهضة الأمّة ونشؤئها.
علماً أن سعاده في مقدّمة كتابه «نشوء الأمم» أشار إلى هذا الموضوع بالقول:
«منذ ألّف ابن خلدون مقدّمة تاريخه المشهور ووضع أساس علم الاجتماع لم يخرج في اللّغة العربيّة مؤلّف ثانٍ في هذا العلم. فظلّت أمم العالم العربيّ جامدة من الوجهة الاجتماعيّة، يتخبّط مفكّروها في قضايا أممهم تخبّطاً يزيد الطّين بلّة. ولا نكران أنّ الكاتب الاجتماعيّ السوريّ نقولا حدّاد وضع مؤلّفاً معتدل الضّخامة أسماه علم الاجتماع . ولكنّ هذا الكتاب من النوع المدرسيّ ولا يأمن قارئه الشطط. وهو مع ذلك المحاولة الأولى من نوعها، على ما أعلم، لفتح طريق علم الاجتماع الحديث.
ولفقر اللّغة العربيّة في المؤلّفات الاجتماعية، نجدها فقيرة في المصطلحات الاجتماعيّة العلميّة. فوضعتُ في هذا الكتاب مصطلحات جديدة أرجو أن أكون قد وُفّقت في اختيارها للدلالة على الصفة المعيّنة…».
أما تعليل المؤلّف الذي شرحه لـ«البناء» في لقاء خاطف على هامش معرض بيروت العربي الدولي للكتاب الذي نُظّم في النصف الأول كانون الأول الماضي، فأتى كما يلي:
في كتابي «تاريخ لبنان الثقافي» شرح وافٍ حول رفض الطوباوية التي تجمع بين كبار النهضة وأعدائها، كمثل الجمع بين بطرس البستاني وشبلي الشميل وطه حسين وخليل سعاده وأمين الريحاني من جهة، ورشيد رضا وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده من جهة أخرى. حتى لو كان الهدف من هذا الجمع «وحدة وطنية» أو «ستّة وستّة مكرّر» على الطريقة التقليدية اللبنانية. فميّزت كبارَ النهضة ومنهم أنطون سعاده وغيره من المفكّرين، من أصحاب الرجعة الدينية وأصحاب ألّا تكون للعرب نهضة من دون العودة إلى جذور الدين وإحياء الخلافة… إلخ. وبذلك، هؤلاء لا يقبلون النهضة ومكوّناتها كما ظهرت في أوروبا من آداب وفلسلفة وشعر ونحت وموسيقى ومسرح وسينما في ما بعد. وما زالت الدول التي اتّبعت مدارس إحياء الدين، خصوصاً في الجزيرة العربية ترفض هذه المكوّنات. وعلى صعيد آخر، اعتبرتُ أنّ لكل أمة ثقافة وحضارة. ولكن في النهاية هناك حضارة بشرية تصبّ فيها جميع الأمم. وكما أخذت أوروبا من سورية والعرب الأحرف الأبجدية والعلوم والمعارف من كيمياء وفيزياء ورياضيات وحتى أطعمة وأزياء، فلا ضير مطلقاً أن تستعير سورية والعرب من أوروبا في لحظة هبوط مصيريّ سببه الاحتلال التركي الطويل. وكما استعارت أوروبا من العرب وطوّرت شروط نهضتها العلمية والسياسية والاقتصادية، كذلك استعار كبار النهضة العرب ومنهم أنطون سعاده منجزات أوروبا، وخلقوا أفكاراً ونهضة أصيلة تنبع من تاريخ هذه البلاد، وتبدع من دمشق وبيروت وحلب وبغداد.
من هنا، عندما يكتب أنطون سعاده في «نشوء الأمم»، فإنّ مراجعه وربما غالبيتها أوروبية وغربية. وعندما يتحدّث في المفاهيم والجيوبولوتيك، فهو يستند إلى الفكر القومي الأوروبي الذي أدّى إلى ولادة كيانات قومية وأمم في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وروسيا إلخ. إلّا أنه كان مبدعاً إلى أقصى الحدود، فدعا في معظم كتاباته إلى الاستقلال الفلسفي الفكري وهو مفهوم طوّره أنطونيو غرامشي في ما بعد ، وتحاشي الانبهار بأسماء سقراط وأفلاطون وسبينوزا وروسو وماركس إلخ، بل التفكير في ما كتبه هؤلاء واتّخاذ المواقف المناسبة. وأكثر تحديداً، فقد استعار أدوات عدّة، ولكنه استعملها ليخيط ثوباً لبلاده ينبش تراثها العريق ويتحدّث عن أساطيرها الأصيلة في صنع آدابها وفنونها، ويتحدّث عن وحدة الشعب والأرض وتواصل التاريخ منذ ما قبل الحقبة الجليّة، ويشدّد على إيمانه بنهضة شعبه. وبهذا كان مفكّراً مميّزاً في ما وضعه وفي موقفه غير الشوفينيّ في ما استعاره من الفكر الأوروبي.
يبقى القول إنّ المؤلف قدّم كتاباً عن لبنان وطن الحرف والغنى الثقافي، لم تكن له تلك الأهمية إلا عبر أدبائه وشعرائه وفنونه الجميلة ترافقاً مع الإرث التاريخي الكبير وغناه بتعدّد الحضارات والثقافات المتعاقبة. فغدا كتاب «تاريخ لبنان الثقافي من عصر النهضة إلى القرن الحادي والعشرين» مرجعاً لا غنى عنه، نال إعجاب نخبة كبيرة من المثقفين، خصوصاً الباحثين منهم كما الإعلاميين والطلاب الجامعيين، بما لبّاه من حاجة ملحّة نظراً إلى كثافة مراجعه الموثّقة.