إن كنّا أحببناك… فلأن شِيَمَك تُحَبّ
اعتدال صادق شومان
أبكر «سيف» نجل الفنان رفيق السبيعي بالحضور إلى حفل تقبل التعازي بوالده الراحل، متأبّطاً صورة الوالد «أبو عامر» وغلالة حزن جليّة في قسمات الوجه والهامة المنحنية، وعبثاً يداري زحام دمع، يجهد أن يبقيه مأسوراً خلف الجفون، فينهمر سخيّاً على كبيره الراحل، أباّ ورفيق درب، زميلاً قدوة، وفيضَ ذكريات. ولعل في باله ذكرى قول يردّده في نفسه: «أماتَ أبوك؟ ضلالٌ! ففي البيت منه روائح ربّ… وذكرى نبيّ»، أو هكذا تبادر لي.
يصعد «سيف» إلى ناصية المنبر، ويرفع تلك الصورة الساحرة «للرفيق» باللباس الدمشقيّ الأصيل، والملامح التي تشي بوسامة و«شبوبية» وهيبة طاغية، بمقاييس «هوليودية» لم يضاهِه فيها أحد من أبناء جيله، ولم تتوفّر حتى لدى جيل اليوم من الفنّانين الشباب. وهذه ليست مبالغة أو مغالاة مردّها إعجابنا الشديد برفيق سبيعي. إلى جانب «كاريزما» حبته الطبيعة بها، ليتألّق بدور «الزكرت الشامي» فيأتينا الصوت من خلف الصورة باللّهجة الشامية المحبّبة: «داعيكم أبو صيّاح معدّل عَ التمام»!
صورة طُبعت في ذاكرة الأجيال، شخصية «أبو صيّاح القبضاي الدغري يللي ما بحب الزاحلة»، الممتلئ حبّاً ورجولة والمشبع بالطيبة والنخوة والأريحية الصافية. «الأكابري» بما هي تركيبة أخلاقيات وقيم و«وجاهة» راقية وسِمة نُبلٍ عُرف واشتُهر بها أهل الأحياء القديمة الدمشقية. ليغدو اللقب «أبو صيّاح » اسماً وحكاية.
يحار المرء من أين يبدأ الحديث عنه وكيف يُنهي، وكيف يختصر مسيرة فنّية أثمرت على مدى عقود أعمالاً فنّية وضعت صاحبها في أعزّ الأماكن، ليضحى «أبو صيّاح» رفيق الشعب والناس وحكايتهم، ومجسّداً آمالهم وآلامهم، رفيق الفرح والسمر، رفيق الحارة الشامية و«الزكرت المعدّل» «مختارها وشيخ شبابها» و«زعيمها الأصيل».
من الروّاد هو، ووريثٌ للروّاد الأوائل، وأحد المؤسّسين للدراما السورية، ممثّلاً ومطرباً، ومنولوجست.. ليكون فنّان الشعب من دون منازع بما شكّله من حضور وجدانيّ في المجتمع ووعيٍ وطنيّ، وقوميّ نهضويّ، بوصفه صاحب رسالة فنّية وثقافية جعلت منه فنّاناً برتبة مناضل بامتياز.
من نبض الشارع ومشاربه استمدّ مفردات أغنياته الشعبية الهادفة بغير مواعظ ثقيلة، لتصل الفكرة إلى جمهوره بسلاسة وبغير تكلّف بما عُرف عنه من رشاقة وخفّة ظلّ، مع ما يختزنه ويعتمل في ضلوعه من صدق عاطفة. فغنّى لهم بكلماتهم: «يا ولد لفّلك شال»، «تمام تمام هدا الكلام»، «شروال أبو صيّاح»، «لا تدوّر عَ المال»، «حبّوباتي التلموذات»، «شيش بيش»، «قعود تحبك»، «الحبّ تلتّ لوان»، «الخنافس»، «زحليقة وتلج»، «ليش هيك صار معنا»، و«الأوتوستوب». ومَن منّا ينسى تلك الأغنية النقدية للمجتمع في تقليده «لتقليعات» غريبة عن بيئته وعادتها «شرم برم كعب الفنجان مدري شباب مدري نسوان».
في عزّ سطوته انتظرناه «بالأسود والأبيض» في «مقالب غوار» و«حمّام الهنا»، وسكن وجداننا في زمن التسلّط العثماني يمتطي في «سفر برلك» صهوة جواده عائداً إلى دمشق ليعود بالإمدادات لقبضايات لبنان وسط أهازيج لبنانية مندّدة بالاحتلال العثمانيّ لبلادنا. آه، كم هي قريبة الصورة اليوم مع تلك الأيام الخوالي يا أبا صيّاح.
وفي «بنت الحارس» أحببنا نخوته ومروءته الطيّبة، وتلك البشاشة في دعم ضيفه اللبنانيّ «أسعد» الهارب من ظلم أهل قريته له.
قبل أن يتبوّأ الزعامة عن جدارة وإتقان متميّز، في «أيام شامية» «دمشق يا بسمة الحزن» «إلك يا شام »، «صلاح الدين الأيوبي»، «مبروك»، «صقر قريش»، «مرايا»، «فسحة سماوية»، «عن الخوف والعزلة»، «عمر» «الخشخاش»، «مبروك»، «مرايا»، «بنت الشهبندر»، «طالع الفضة»، و«حرائر». لا شك في أنّ في هذا النتاج الفنّي الكبير كلّه، قد لا يخلو من بعض «عتب» بين شركاء في المهنة ورفاق درب طال أمده، كم وددنا لو لم يكن، ولو أن القلوب بقيت «صافية»، وأيضاً مطبّات مهنية هنا وهناك في اختيار الأعمال الفنية يفرضها واقع حال لا بدّ من مسايرته لضمان استمرار، ولكنّها هنّات لم تفسد أو تنال من جمال وصدق عطاء راسخ وحقيقيّ.
أما وقد اشتدت الوطأة الإرهابية على سورية وشعبها، أبى الفنّان المناضل إلّا أن يسجّل وقوفه إلى جانب بلده وأبناء شعبه، فاختار أن يؤدّي دوره الأخير قبل الرحيل، بالجثوم في حدقة عين الشمس لم تمنعه وطأة العمر، في آخر أعماله «سوريون أهل الشمس»، فكان سطوعه جليّاً لن يحجبه غياب.
وتبقى في البال آخر منولوجاته الوداعية «أنا سوري من أرض الشام وعطر الياسمين الفوّاح… مهما درت وشفت بلاد… غير بحضنا ما برتاح». وقد ارتاح كما تاق قلبه في حضن سورية وعبق ياسمينها الفوّاح، مدثّراً «بالعلم» رداءه السوريّ الأخير.
أمّا الوصيّة الأخيرة فكانت قولاً واحداً: «أوصيكم خيراً بسورية». خصّها بـ«أهل الراية» شعباً ونساءً ورجالاً، جيشاً ونسور فدى من أهل البطولة والانتصارات يذودون عنها في الضيم، وفي اليقين إنهم لمنتصرون… لتحيا سوريانا.
بالأمس، توافد من اعتدتَ على مناداتهم «أحبائي ونور عيني» من أهل وأبناء نهضة وشخصيات رسمية وأحبّة، وأبناء «كار» ليقوموا بواجب التعزية وهم في الحقيقة أهل العزاء والخاطر. أودعوك، بضع كلمات رثاء تنمّ عن تقدير وحبّ لفقدان كبيرٍ اجتمعوا على حبّه واحترامه. أحزنهم رحيل فنّان أجمعوا على أنه سيمرّ وقت طويل قبل أن يعيد الزمن، ملامح تشبهه بما هو قيمة فنّية أتقنت ترسيخ دور البطل بمأثورها الشعبيّ، كما ابتدعتها من أشواق الناس بعفوية وبغير تكلّف، ولا تصنّع. بعضهم سال قلمه. وآخرون تواروا خلف الحزن. وأكثرهم فرّت منهم الكلمات، يتقدّمهم «ابن البلد» الفنان أحمد الزين بوصفه من أهل الفقيد، يستقبل المعزّين ويودّعهم، كفرد من عائلة الراحل الكبير.