أستانة منصة استسلام المعارضين … وتكريس للستين
د. رائد المصري
غالباً ما كانت العقدة الأساسية في الحرب العالمية على سورية هي في فصل المجموعات الإرهابية عن غيرها ممّن يسمّونها معتدلة، وهو الأمر الذي رفضته الولايات المتحدة وقبلته تركيا وبدأت بقطف ثماره مع الجانب الروسي، لكونها امتلكت أوراق القوة العسكرية للجماعات الإرهابية رغم أنها اكتوت وتكتوي بين الحين والآخر بنار هذه الجماعات التكفيرية.
لقد جرت وستجري مستقبلاً لقاءات بين وفود الحكومة السورية ووفود فصائل الجيش الحر التي تمتلك قوات عسكرية على الأرض السورية وغير مصنّفة إرهابية وقبلت بوقف وتنفيذ وقف إطلاق النار، وهي تدين طبعاً بالولاء لتركيا الراعي الأساسي لها. مع العلم أنّ اجتماع أستانة المقبل سيكون على مستوى خبراء عسكريين من الطرفين وبحضور الخبراء الروس لوضع أطر تثبيت وقف النار ومراقبة مفاعيلها تمهيداً لجولات المفاوضات السياسية التي ستنعقد في الثامن من شهر شباط المقبل…
لكن الّلافت كان اقتناع هذه الجماعات المسلّحة بالعدول عن مطالبها بإسقاط الرئيس الأسد وإسقاط النظام، واللافت أكثر هو أنّ الحكومة السورية لم تعُد تصنّفها في الخانة الإرهابية وكذلك المعارضات السياسية…
لكن يجب التنبّه أكثر إلى أنّ هناك معارضات لم تتمّ دعوتها إلى أستانة كالهيئة العليا للمفاوضات الموالية للسعودية والائتلاف السوري الوطني المقيم في اسطنبول. وهو ما بات يشكّل ضربة لشرعية هاتين الجهتين المعارضتين للنظام ولحضورهما، لكون الفصائل المسلّحة خرجت اليوم كلياً من تحت مظلة هذه المعارضات وأصبحت تحت حماية ومظلة تركيا واكتسبت شرعية أقوى لدى روسيا والحكومة السورية وبالطبع عند إيران بعد بعض التحفظ.
وهنا لا بدّ من الاعتراف بأنّ هذا الخرق الكبير الذي تحقّق في وقف وقف النار وتثبيتها عبر مفاوضات أستانة لم يكن ليتمّ ويحصل لولا الاستدارة التركية وقبول أردوغان وانفتاحه على روسيا وعلى دورها المصاعد، واقع قرأته أنقرة بجدّية ورفضته واشنطن بتعنّت من خلال التسليم بضرورة فصل الإرهابيين بين معتدل وتكفيري متطرّف.
لا بدّ من القول إنّ صيغة مفاوضات أستانة وبحثها وقف النار وتبادل الخرائط العسكرية لخطوط التماس للمقاتلين ومراقبتها هي مواضيع ميدانية وعسكرية. وهي بطبيعة الحال لن تلغي الحضور الأممي ولا الحضور الأميركي، حتى لا يكون دورها تخريبياً في المستقبل لكون الفصائل المُدرَجة على قائمة الإرهاب أيّ داعش والنصرة وأحرار الشام تقتات بمجموعها من الصحن الأميركي ومن الصحن الخليجي السعودي والقطري تحديداً. وهما اللتان لم توجّه الدعوة إليهما الى مؤتمر أستانة، ما يسبّب قلقاً كبيراً من عرقلة المؤتمر من خلال التصعيد الميداني وكانت تجربة منطقة بردى ومياه دمشق أبرز تعبير.
الحكومة السورية حذرة وتريد استكمال العمليات العسكرية بعد الانتصار المدوّي في حلب. هو حذر مشروع، لأنه مقترن بعدم الثقة بأردوغان وبغدره وعدم الرهان عليه.
هنا وجب الحديث عن تطوّر لافت في الحرب السورية في ظلّ انكفاء الإعلام المملوء بالنفط والغاز، بعد حرب المياه وتلويثها بالمازوت في العاصمة دمشق وحجبها عن سكان العاصمة، ممّا يمكن أن يُعدّ جريمة حرب بامتياز، كذلك حرب إمدادات الطاقة والغاز ومحطات التوليد والكهرباء كلّها جرائم حرب توجب التوقف عندها… فاقتضى التوضيح لا أكثر…
السيطرة والإحكام والتفويض الروسي التركي معاً لأيّ حراك عسكري وسياسي تفاوضي بما يخصّ الأزمة السورية بات كاملاً في هذه المرحلة، فحجم التنسيق والتفاهم بين روسيا والحكومة السورية كان ثابتاً في تبادل للأدوار وللمواقف منذ إجلاء مسلحي حلب وإصرار الحكومة على تركهم للأسلحة الثقيلة وتحرير الأسرى قبل خروجهم، كذلك التركي الذي يملك أوراق القوة على المسلحين. أوراق تبدأ من إغلاق الحدود في وجه الإمدادات العسكرية والمالية ولا تنتهي بالتضييق السياسي وحرية الحركة. وهو ما فهمته فصائل الجيش الحر مبكراً واستدارت.
مجمل القول إنّ الخاسر الأكبر اليوم من كلّ ما يحصل من تطورات متسارعة إقليمياً ودولياً ومن خلال عقد مؤتمر أستانة هي الفصائل المعارضة المرتمية في الحضن الخليجي السعودي والقطري ونعني بها الهيئة العليا والائتلاف، ليكون مؤتمر أستانة نهاية مرحلة ونهاية أزمة سياسية وعسكرية وقلب صفحتها لبناء مرحلة جديدة برؤية مختلفة للصراع الدائر في سورية، لكن أساسها هو بقاء الرئيس الأسد والحكومة، وكلّ مَن لا يزال يراهن عكس ذلك فَقَد بوصلته وفهمه لحقيقة المتغيّرات ولمندرجات الصراع الإقليمي والدولي وقواعد لعبته الجديدة التي ترسّخت بعد الانتهاء من معركة حلب وما شكّلته من نصر استراتيجي غيّر مجرى التاريخ…
أخلص لأقول إنّ كلّ ما أوردناه، لا بدّ أن ينعكس أريحية سياسية ووطنية على الداخل اللبناني بعد انقلاب صورة التحالفات التي بُنيت على مدى عقدين من الزمن… وهو الأمر الذي بدأنا نشهد من خلاله ضموراً بين القوى السياسية لترجمة قانون انتخابي قائم على النسبية وأكثر تمثيلاً، قانون يمكن له أن يحمي المقاومة من أيادي الغدر الداخلية، ففي ظلّ بقاء قانون الستين الانتخابي سيبقى المجتمع اللبناني مستقوياً بالخارج الأميركي الاستعماري والصهيوني، وسيبقى أداة له وسيفاً مسلطاً وخنجراً في خاصرتها…