برنارد هنري ليفي: أيّها اليهود… اِحذروا ترامب!
ترجمة: ليلى زيدان عبد الخالق
نشرت صحيفة «نيويورك تايمز» الأميركية تقريراً لـ«غُراب الثورات»، اليهوديّ برنارد هنري ليفي جاء فيه:
منذ أسابيع قليلة فقط، كان يهود الولايات المتحدة الأميركية و«إسرائيل» يشعرون بأنهم تعرّضوا للخيانة من قِبل باراك أوباما. وذلك بسبب السماح لمجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتمرير قرار يدين الاستيطان «الإسرائيلي»، والذي سمح الرئيس المنتهية ولايته بإقراره على حساب اليهود أنفسهم. غير أنّ الخطر الذي يواجه يهود «إسرائيل» والولايات المتحدة اليوم، وكذلك اليهود في بلدان أخرى، لا بدّ لهم أن يحملوه لفترة طويلة من الآن، إذ يبدو أنهم سيتعوّدون على تلقّي الخيانة في المستقبل، وهذه المرّة من الرئيس الأميركي دونالد ترامب.
يمكن لأحدهم الاعتراض على هذا الحكم المسبق على ترامب، الذي قدّم إلى الآن أدلّة وافرة على حُسن نيّته. فعلى سبيل المثال، عندما عمد إلى تسمية أحد أصدقاء «إسرائيل» للعمل كسفير، واعداً بنقل السفارة من «تل أبيب» إلى القدس، مستعيناً بصره زوج ابنته، جلريد كوشنر، اليهودي الأرثوذوكسي، و«حفيد ناجٍ من المحرقة»، لتقديم المشورة له في شأن سير علمية السلام في البيت الأبيض. ألا تشكل هذه خطوات حاسمة تدعو إلى طمأنة اليهود الذين يؤيدون «إسرائيل»؟ نعم ولا.
هناك قانون يحكم العلاقات بين اليهود وباقي العالم. وقد شُكّل هذا القانون أثناء محاكمة أدولف إيخمان، وذلك حين انتقد المفكّر اليهودي العظيم غيرشوم شوليم، حنة أرندت واتّهمها بالتقصير في مساندة الشعب «الإسرائيلي» ـ مُظهرةً حبّاً غير كافٍ للشعب اليهودي. هو عينه الحبّ المطلوب من الرئيس الأميركي للتعاطي مع قضايا «إسرائيل».
في مثل هذه الظروف، وعلى عكس تلك التي تتوافر في الظروف الحياتية الاعتيادية، يؤكد هذا القانون أن التظاهرات الودّية أو السلمية ـ وللمفارقة ـ لا تُؤتي بالكثير. وتحدّد أيضاً من أن التفاتات الصداقة، حين لا تنبع من أعماق القلب لا تُبنى على حبّ صادق وخالص ـ ولهذا، أخيراً، واستناداً إلى معرفة حقيقية للحبّ ـ تتحوّل التفاتات الحبّ هذه إلى نقيضها ـ في نهاية المطاف.
ولتوضيح المغزى أكثر فأكثر، نحن لا نستطيع أن نحكم ما إذا كانت سلسلة الإشارات التي أطلقها ترامب ناحية «إسرائيل»، ستكون لها تبعات شريرة سواء على المديين القصير أو البعيد.
وقد تعتبر هذه الإشارات، على سبيل المثال، تعزيزاً لهامش قُصر النظر، وبالتالي، قد تشكّل بعداً انتحارياً في السياسة «الإسرائيلية». قد يرسلون إشارة خاطئة إلى أولئك الذي سيُظهرون سعادة كبيرة عند رؤية الولايات المتحدة تعكس النموذج أحاديّ القرارات غير القابلة للنقاش، وبالتالي، فتح الآفاق للقوى الأخرى كي تعرض بطولاتها. وقد يتبدّى ذلك في الولايات المتحدة على شكل احتضان فائق لليهود المؤيّدين لـ«إسرائيل»، ضدّ الرئاسات المتقلّبة ومنها واحدٌ على الأقلّ غيّر رأيه وفقاً لمصالح صفقاته الشخصية ، أحد هؤلاء الرؤساء الذين لا يتمتعون بشعبية كبيرة بين الأميركيين، بسبب دعمه المتراجع للقضايا «الإسرائيلية»، التي يمكن أن تشكّل خطراً على إجماع الحزبين الجمهوري والديمقراطي، التي قدّمت الكثير من الدعم والتأييد لـ«إسرائيل» على مدى عقود من الزمن.
لا يمكنني الادّعاء بأنني أدرك ما يجول في خاطر دونالد ترامب أو حتى في كيفية تحرّك عواطف قلبه في ما يتعلّق بالالتزام الصادق مع الدولة اليهودية. لكن، من المؤكد أننا نستطيع الاستدلال على مثل هذه المؤشرات بالعودة إلى سنوات عدّة مضت.
وأحدها يعود إلى جون أودونيل، وهو الرئيس التنفيذي السابق لكازينو آتلانتا سيتي الذي يملكه ترامب، الذي ذكر في كتابه الصادر عام 1991 بعنوان «Trumped» قول ترامب نفسه: «أفضل الناس الذين أودّ أن أحصي أموالي معهم كلّ يوم هم أولئك اليهود الذي يرتدون القلنسوات القصيرة». وفي الآونة الأخيرة، برزت عبر «تويتر»، عاصفة من التغريدات اليائسة، لإثبات أنه الأكثر ذكاءً والأكثر قدرة على المراوغة حتى مع جون ستيوارت نفسه.
ثمّ، وفي غمرة انغماسه بحملته الانتخابية، كان هناك لقاءٌ حيث توجه ترامب إلى المانحين من أعضاء الائتلاف الجمهوري اليهودي: «إنّي أدرك جيداً، لمَ لن تقوموا بدعمي! فقط لأنني لا أريد مالكم». وتدلّل هذه العبارات على احتقار معيّن، على أقلّ تقدير. وإذا ما أردنا أن نكون أكثر دقةً، فإن هذه المجموعة تعكس ازدراءً معيّناً، ويمكن تفسير ذلك ـ وفقاً لفرويد ـ على أنه أحد ميكانزمات الدفاع الاستباقية للأنا، ضدّ ازدراء مفترض من الطرف الآخر. بغضّ النظر عمّا إذا كان هذا الازدراء حقيقيّاً أو متخيّلاً.
وسواء كان جون ستيوارت أو الجهات اليهودية المانحة تزدري هذا المهرّج ذا الشعر اللامع، وكذلك أمواله، وممتلكاته بما فيها برج ترامب الشهير، فمن الواضح أن المسألة غير مرتبطة بكلّ هذا. فالأمر الأساس الذي يعتقد ترامب أنهم سيقومون به، يرتبط في نظرته الكاريكاتورية لليهود، بحسب ما ذكرت «نيويورك تايمز»، من أنه رجل استعراضيّ بامتياز، فضلاً عن أنه مبتذل.
إن هذا لمثالٌ رائع للدفاع عن النفس من الازدراء المفترض الذي لطالما أظهره حيال معاداة السامية، ومع بروز اليهود مرّة أخرى، كممثلين لنخبة كبيرة تعمل ضدّه وأحياناً تؤيده، نراه الآن في موقع السلطة والقوّة، ويسعى ببساطة إلى الانتقام.
يذكّرني هذا بإحدى قصص التلمود التي تفسّر هذا السياق المنطقي خير تفسير.
إنها تلك القصة ـ جزءٌ من التاريخ المنقّح للحاخام اليهودي ناسيا إحدى شخصيات الفكر اليهودي في القرن الثالث ميلادي. أدار هذا الحاخام مدرسةً، كان يمرّ بها يومياً أحد الشبان من مربّي الخنازير. ولم يوفّر تلاميذ هذه المدرسة الأذكياء المليئة رؤوسهم بالعلم والمعرفة، هذا الشاب الراعي وأصرّوا دوماً على التندّر على حاله والسخرية منها.
وبعد مرور سنوات عدّة، استُدعي هذا الحاخام إلى مدينة بعيدة تحت حكم القيصر، وذلك للمثول أمام القيصر الروماني ديوكلتيانوس. يبدو أن هذا القيصر كان شديد التقدير لضيفه. فقد أرسل إليه أحد أهمّ سفرائه آمراً بتوفير حمّام فاخر لضيفه لتطهير نفسه بعد رحلته الطويلة المرهقة.
غير أن ديوكلتيانوس أرسل سفيره أيضاً يوم الجمعة، ليطلب من الحاخام السفر نهار السبت منتهكاً بذلك أهم الوصايا عند اليهود، كما أمر القيصر بتسخين الماء حتى درجة الغليان كي يحترق الحاخام من شدّة حرارتها، لكن ملاكاً أنقذه في اللحظة الأخيرة بعدما عمل على تبريد المياه.
وعندما مثل الحاخام أمام الإمبراطور ديوكلتيانوس، تعرّف إلى راعي الماشية السابق الذي قال له: «هل تعتقد أنه بإمكانك ازدراء الإمبراطور، لمجرّد أن ربّك يستطيع القيام بالمعجزات؟».
تعمّدتُ ذكر هذه القصة لأنها توفر استعارة جيدة للغرب في الوقت الحالي، حيث الحال الآن، كما كان في روما في العصر القديم، انتصارٌ للعدمية حيث يمكن لأيّ كان، حتى مربّي الخنازير أن يصبح إمبراطوراً.
إنه لمثالٌ جيد، أيضاً، على الحكمة اليهودية التي تستجيب للوضع وفقاً للتالي: «كان لدينا ازدراءٌ واضح لديوكلتيانوس، راعي الخنازير، كما أننا مستعدّون الآن لتقديم كلّ التبجيل والتقدير لهذا الراعي ـ الإمبراطور، الذي وكما فعل شاوول، قبل أن يصير ملكاً، كان سائساً للحمير ـ فأصابته النبوّة، وارتفع في منصبه وأصبح رجلاً جديداً».
وفوق هذا كلّه، إنها أسطورة جيدة، ترمز إلى التفاضل بين حدّين، أو إذا صحّ التعبير، إلى التفاح المسموم من ناحية، والمقدّم من قبل الراعي المُهان، والتوّاق إلى الانتقام، كما برز عند جون ستيوارت وزملائه اليهود، الذين يظهرون أذكى ممّا نعتقد. وفي مواجهة هذه الحالة، ما من شيء ـ بالنسبة إليّ ـ يستحقّ الاهتمام أكثر من قدرتنا على الحفاظ على قدرٍ من المسافة.
وكغيرهم من المواطنين الأميركيين، فعلى اليهود احترام الرئيس المنتخب كما ينصّ على ذلك الدستور. غير أنه من الضروري ألا يقعوا ـ في نهاية المطاف ـ في فخّ الاعتقاد بأن هذا يتعارض مع الفضيلة التي هي وَسَطٌ بين طرفين. عليهم ألّا ينسوا أبداً أنه مهما كان عدد المرّات التي يعلن فيها ترامب عن حبّه وولائه لـ«إسرائيل»، من بنيامين نتنياهو أو أيّ أحد غيره، سيبقى ترامب ذلك الراعي السيّئ الذي يحترم القوّة فقط، والمال والقصور الفاخرة، بينما لا يلقي بالاً للمعجزات، أو حتى لإمكانية دراسة نموّ القطاع الاستخباري في ضوء التقاليد اليهودية.
أخيراً، عليهم أيضاً أن يدركوا جيداً، أنه في مثل هذه الفترة، التي وُصفت بالشعبوية، بسبب عدم القدرة على صوغ مصطلح أفضل، إبان فترة الانتخابات الأميركية، لا تجسّد سوى أعراض إنما على مقاسات كبيرة في وقت يُهاجَم الفكر من كلّ حدب وصوب، لتزدهر الأكاذيب المتغطرسة المشوبة بالثقة بالنفس، بشكل لم يسبق له مثيل. وفي ظلّ هذه الثقافة السياسية الجديدة المهيمنة حالياً على كوكبنا، يتقدّم أحد الأثرياء الأميركيين من أحد أبناء عمومته ـ أي الأقلية الروسية ـ يتقدّم رعاة الخنازير بتوجيه صفعة مدوية غير خجلة أو آبهة بشيء، بل مهدّمة للقصور الإمبراطورية، لن يبقى لـ«الأمة اليهودية» أيّ دور يمكنها أن تلعبه.
وفي سبيل التحالف مع هذا النوع من «الشعبوية»، ستكون دعوة إلى خيانة «إسرائيل».
إن الاستسلام لديوكلتيانوس يشكّل في حدّ ذاته خيانةً للذات.