لبنان وإيران: الحب الممنوع!
د. وفيق إبراهيم
لا تحتاج الجمهورية الإسلامية في إيران إلى ضجيج إعلامي صاخب لتأكيد حضورها السياسي الوازن في لبنان منذ ثلاثة عقود تقريباً، لكنّها تعرف أيضاً أنّ هذا الحضور يتّسم بجمعه بين متناقضين اثنين: حضور شعبي عريض ولافت لا تقدر عليه أية دولة أخرى، مقابل علاقات خجولة من «لبنان الرسمي» ترتفع حرارتها حيناً فتعلو، وسرعان ما تصاب ببرودة قطبية وجليدية فتنكفئ وتتجمّد.
يبدو هذا الوضع مثيراً للدهشة وغير منطقي، لأنّ لبنان الذي يقع في قلب الاهتمامات الإقليمية الإيرانية استفاد من هذه الوضعية لتحرير قسم عزيز من أراضيه في جنوب البلاد… نعم إنّها إيران التي دعمت حزب الله منذ 1982 وحتى 2000 بالسلاح والمال والتدريب، حتى شنّ جهاداً مفتوحاً مع حلفائه في الأحزاب القومية والوطنية، أدّى إلى هزيمة «إسرائيل» وفرارها من الجنوب. كما أنّ هذا الدعم نفسه هزم الكيان الصهيوني في 2006 حين حاول العودة إلى اجتياح لبنان.
وللإشارة، فإنّ حزب الله المتحالف بنيوياً مع إيران يتمثّل في المجلس النيابي بكتلة نيابية أصيلة وحليفة في الكتل القومية والوطنية، وله وزراء في الحكومة وممثّلون في معظم الدوائر الرسمية. كما يتحالف مع الجيش اللبناني عسكرياً وأمنياً في إطار تنسيق شبه كامل، تشجّع عليه طهران.
يستند هذا التنسيق إلى الانسجام الكامل في نقطتين: مقاومة «إسرائيل» ومحاربة الإرهاب التكفيري، مسجّلاً نجاحاً منقطع النظير في منع الجيش «الإسرائيلي» من القيام «بنزهات» في جنوب لبنان، كما كان يفعل منذ 1948 حتى 2000 من دون رادع أو مواجِه، ومدمّراً الإرهابيين التكفيريين في الجرود اللبنانية المطلّة على سورية، ومعظم خلاياه المستيقظة والنائمة في الداخل… ولولا هذا التكامل لكان الإرهابيون نجحوا في تدمير لبنان سياسياً واجتماعياً وعسكرياً.
وينبثق هنا سؤال كبير: لماذا لا يتوازى هذا التنسيق بين الجيش و«الحزب» الذي ترعاه إيران على المستويات كلّها مع حجم العلاقات بين طهران وبيروت على المستوى السياسي؟ هناك دائماً أسباب تعيق هذا التطوّر، وهي أسباب غير لبنانية تتبنّاها قوى داخلية تعمل على عرقلة هذه العلاقات.
وجدير بالذكر أنّ العلاقات اللبنانية بين البلدين قبل 1979 ، امتازت بالودّ لانتماء البلدين إلى المعسكر الغربي المرتبط بالمحور الأميركي. لكنّ شاه إيران لم يكن يريد نفوذاً في بيروت لانتفاء المصلحة، ولارتباطه بـ«إسرائيل» التي كانت له علاقات دبلوماسية وسياسية عريضة معها. لقد تركّز اهتمام شاهات إيران بالخليج، حيث أدّوا هناك دور شرطي المنطقة وراعيها، وأقاموا علاقات سطحية مع بعض العائلات الشيعية الإقطاعية ورجال دين بارزين، وبدأ الاهتمام الإيراني بلبنان يكبر مع تأسيس الجمهورية الإسلامية التي قامت على أساس رفض الكيان «الإسرائيلي»، والتمسّك بفلسطين بلداً عربياً إسلامياً فيه المسجد الأقصى وكنيسة القيامة ومهد المسيح.
ونشأ بالتوازي مع هذا الاهتمام عداءٌ غربيٌ كبيرٌ لإيران، انعكس على كامل الأنظمة العربية الموالية للغرب، ومنها لبنان.
ولأنّ طهران طردت السفارة «الإسرائيلية» منها وسلّمتها لمنظمة التحرير الفلسطينية في الوقت الذي ذهب فيه الرئيس المصري السابق أنور السادات إلى فلسطين وعقد صلح استسلام مع «إسرائيل».
ولأنّ الأردن فعل مثلها، ومعه السلطة الفلسطينية، مع جنوح بلدان الخليج والمغرب وقطر إلى وضعيات مماثلة… وصولاً إلى حدود ولادة حلف خليجي «إسرائيلي» تركي، فإنّ لبنان وجد نفسه في موقف حرج… فشعبه في مكان وسياسات حكوماته في مكان آخر.
وبتشريح طبيعة نظامه السياسي، نجد أنّ طوائفيّتها أدّت إلى ضعف هذا النظام واستسلامه للنفوذ الغربي الخليجي، فالاقتصاد اللبناني ريعي يقوم على السياحة والترانزيت والمال السياسي، ومع انسداد أبواب حركة النقل والتصدير أمام الترانزيت بسبب اندلاع الأزمة في سورية وإقفال الحدود، لعب لبنان على عاملَيْ السياحة والمال السياسي، فتراجع نفوذ الدولة السورية مقابل ارتفاع النفوذ السعودي خصوصاً والخليجي عموماً، ومعهما الراعي الغربي بالطبع.
بالتوازي، نما دور حزب الله التحريري من جهة، والمقاتل للتكفير من جهة ثانية، فتوسّعت شعبيّته ومعها النفوذ الإيراني، ما أدّى إلى ولادة معادلة غريبة من نوعها: النظام السياسي موالٍ للغرب والخليج، أمّا القسم الأكبر من الناس فمع محور المقاومة في حزب الله والأحزاب القومية والوطنية واليسارية الحليفة، التي تقدّمت بدورها شعبياً وأمسكت بقسم هامّ من الشارع وانتزعت جزءاً من النظام السياسي، وذلك لتعطيل حركات الانقلاب على أدوارها العسكرية عند الحدود مع فلسطين المحتلة وسورية الجريحة.
ومع استعانة الغرب والخليج بالحريرية السياسية، صاحبة الخطة الوحيدة بالاستيلاء الكامل على النظام السياسي اللبناني، وبذلك ازداد النظام تصلّباً في منع أيّ علاقة سويّة مع إيران.
وللتوضيح، فإنّ أول خطة جرى وضعها للسيطرة على لبنان، نسجها الغرب الفرنسي لمصلحة ما اُسمي في ما بعد «المارونيّة السياسية». أما الخطة الثانية، فخطط لها الغرب والخليج، وعرفت باسم «الحريرية السياسية». أمّا ما تبقّى من مشاريع، فلا يعدو كونه خططاً مناطقية للسيطرة على أقضية أو دوائر لا تصل إلى حدود الاستئثار بالدولة كلها.
لقد أجهضت الحريرية سرّاً كلّ محاولات تحسين العلاقات مع إيران، وشكلت جزءاً طليعياً من السياسة السعودية في العالم العربي لصالح الرياض وليس لبنان.
لذلك حاولت تقييد حرية حزب الله بالتعاون مع فرنسا، وقدّمت صورة الحريص على علاقات جيدة مع طهران، لكن الوقائع المتواترة كشفت أنها لجمت إمكانية أيّ تطوّر للعلاقات مع الجمهورية الإسلامية، وربطتها بمدى حسن العلاقة أو تراجعها بين الرياض وطهران.
فهل تغيّر الأمر بوصول حليف حزب الله العماد ميشال عون إلى رئاسة الجمهورية؟
بداية، يمكن الجزم بأنّ عهد عون لا يزال في طور التركيب، فيما لا تزال التقسيمات الطوائفية الناتجة عن قانون الانتخابات القديم الذي عزّزه الرئيس الراحل رفيق الحريري على حالها…
وتحتفظ السعودية حتى اليوم بدور أساسي في السيطرة على النظام الطائفي من خلال لعبة الإمساك بمكوّناته الاساسية.
من جهته، يدفع النفوذ الغربي بدوره في اتجاه معاداة إيران وسورية، وهناك خشية من احتمال اتخاذ تدابير تسيء إلى العاملين اللبنانيين في الخارج، أو تدفع نحو تبنّي قرارات أميركية تؤذي لبنان وقد تتسبّب بتدميره اقتصادياً وسياسياً.
لذلك، يؤدّي الرئيس عون دور القائد «العقول» الذي يعرف أهمية إيران لبنانياً، ومدى الدور الكبير الذي يلعبه حزب الله في الدفاع عن لبنان جنوباً وشرقاً في وجه الإرهابين «الإسرائيلي» والتكفيري، لكنّه لا يريد التسبّب بكوارث داخلية، لذلك قام بزيارات للسعودية ومصر قد يستتبعها بجولات عربية وغربية، ينهيها بزيارة طهران!
وبالاستنتاج، يتّضح أنّ رئيس الجمهورية يريد تأسيس نظام متوازن منفتح على الخليج الاقتصادي والغرب وروسيا، من دون نسيان إيران التي يمكن فتح الطريق بين اقتصادها والاقتصاد اللبناني. فلبنان ليس أقوى اقتصاداً من فرنسا وانكلترا وألمانيا التي تسعى إلى عقد اتفاقات اقتصادية مع طهران. ولبنان ليس أقوى من تركيا التي ترتبط بعقود بعشرات المليارات معها، وكذلك باكستان، وكلّها دول في قلب النفوذ الفرنسي، فلماذا استثناء طهران إذاً من دائرة العلاقات الحسنة مع لبنان؟ أمّا التخوّف من ازدياد هيمنة حزب الله في الداخل نتيجة للتحسّن المحتمل للدور الإيراني، فليس إلّا وهماً، لأنّ حزب الله أصبح مشروعاً إقليمياً كبيراً، وليس له في لبنان إلّا الدفاع عنه في وجه «إسرائيل».
فهل ينجح العماد عون في مشروعه؟
هناك معوقات بالطبع، لكنّها لن تؤدّي إلى عرقلته لأنّ مشروع حزب الله في المنطقة مع حلفائه المحليين والإقليميين والدوليين يشق طريقه بسرعة نحو نصر مبين ومؤزر.