لغة حسيّة بتعابير كثيفة الدلالات

نسرين كمال

حين تشرع في قراءة «مفاتيح بلاستيكية للجنة» الصادر حديثاً عن دار النهضة العربية للشاعر الدكتور ربيع الأتات، تدرك فوراً أنك ماضٍ في مغامرة جديدة، تأسرك بقدر ما تطلق مكنوناتك.

هو البعض مما سينتابك، أنت القارئ اليقِظ التشكيليّ، حين تبدأ في تلقف القطرة الأولى التي تختزل البحر، وإذ يحيلك كل عنوان إلى قصائد تزخر بتجربة حادة ومشاعر باطنية الصخب، رزينة التمظهر، يلفّك ذاك الإحساس القاتم بمرارة وجودك الإنساني. بسيطة الصور إلا أنّها تتناثر كشلال آن تتداعى فيك لتنمو كأشجار خفيّة.

ثمّة لغة حسّية مترعة بتعابير دلالية كثيفة ما كان بإمكانها الإشعاع لو لم يتمّ رصف مفرداتها بفطنة وتناغم مرهفين:

الأصابع مضمومة

بوّابات المقابر

مفتوحة على مصراعيها

سريري

في عداد المفقودين

شجرة

ثم هناك الصدمة الجمالية والمدهشة في آن، وهي ثمرة تلك المسافة الشاغرة بين المتوقّع واللامتوقّع:

قطرات المطر

حبّات البرد

ـ حتماً ـ هذه السماء مثقوبة

أوراق الخريف

وجه متجعّد

لسماء غيّرت عينيها

وفي مكان آخر نجد التضادّ الصارخ، والذي يترك للمعاني أن تنداح بين قطبيه:

السماء،

قطرة مطر

وكل البحر في البحر

طفولتي

أرجوحة في الحديقة

تأبى الحراك

ويمنحنا الشاعر المشهدية الوجيزة المتتالية التي تذكّرنا بتقنية السينما الحديثة، حيث يؤدّي تتابع اللقطات الإيحاء الذي تعجز عنه اللغة المنطوقة:

موكب الجنازة

تمرّ الأرملة

يغمز العجوز

بين الحائط والسرير

قطعة نقدية

كتاب، غبار وعابرون

تعبر هذه التجربة الروح وتنجح في ثبات حضور قصيدة الهايكو العربية إن في بنيتها الثنائية، وإن في مجازيتها. القصيدة التي نرى فيها ذروة التقاطع بين دقة الفكر وصفاء الشعر والتي تأسرنا وتخضّنا بذكائها الوقّاد، كما في هذا الكتاب الشديد الجمال..