عُقد السياسة بانتظار انفراج الميدان
سعد الله الخليل
تعثّر مسار جنيف بنسخته الرابعة وترحيل عقده للجولة الخامسة المعلن عنها في الثالث والعشرين من الشهر الحالي، وصعوبة توصّل محادثات أستانة بجولتها الثالثة والتي من المتوقع أن تنطلق الأسبوع المقبل إلى وقف إطلاق النار في سورية، وبالتالي عجز المسارات السورية عن المضيّ قدماً بالتوصل لتفاهمات يمكن البناء عليها للمضيّ في التوصل لحلول للأزمة السورية، لا يعكس الحراك السياسي على المستوى الإقليمي والدولي من جهة، ولا التطورات الميدانية على الأرض والتي لا يمكن التغاضي عنها أو إسقاطها من حسابات المجتمعين سواء في أستانة أو في جنيف.
في السياسة ربما نجح المبعوث الأممي إلى سورية في وضع المفاوضات السورية على مسار البحث بالاتفاق على أربعة مسارات رئيسية للبحث في الجولات المقبلة، والتي تستند إلى القرار 2254 المتعلق بالتسوية السياسية في سورية، وتتمثل تلك المسارات بتشكيل حكومة جامعة وصياغة الدستور وإجراء انتخابات بإشراف أممي، ومحاربة الإرهاب والعمل على إجراءات بناء الثقة، وبالرغم من تأكيد دي ميستورا بأنّ المسارات الأربعة ستسير بالتوازي، وبإسقاط بيانه مسألة تسليم السلطة وتنحّي الرئيس بشار الأسد، والتي ما تزال تصرّ عليها، فإنّ مسار جنيف لا يزال بعيداً عن التوصل لنتائج مجدية ترضي الأطراف السورية والدولية التي تتحكم بالأزمة السورية، والتي تدرك بأنّ ما يرسم في المفاوضات صورة سورية المستقبل ويحسم معارك السنوات الست من الحرب على سورية، وما قدّمته تلك الأطراف مما تراه تضحيات بالسياسة والمال والمقاتلين، وبالتالي فكلّ مسار من المسارات الأربعة سيخضع لتقاطع المصالح والسياسات ومرشح لمعارك سياسية لا تقلّ ضراوتها عما شهدته الجولات الأربع الماضية من صراعات، وربما تأجيل لجولات انعقاد لحين التوافق الدولي والإقليمي الذي تبدو بوادره منصبة فقط على ضرورة القضاء على تنظيم «داعش»، أما مسار أستانة فيبدو بمثابة ملء فراغ سياسي بصيغة عسكرية توحي بمقدمات عسكرية ضرورية للاستثمار في المفاوضات السياسية، فوقف إطلاق النار في ظروف الحرب الدائرة في سورية لا يمكن أن يكون عاماً وشاملاً على امتداد الجغرافية السورية لاعتبارات عدة أهمّها تعدّد التنظيمات الإرهابية المقاتلة على الأرض السورية، وصعوبة الفصل بين مَن هو معتدل ومَن تجب محاربته. وبالتالي فمسار أستانة لن يفضي لفعل حقيقي على الأرض خاصة في ظلّ وجود شخصيات تعتبرها الحكومة السورية إرهابية، وتنفذ في السرّ والعلن التعليمات السعودية القطرية، والتي بدورها دخلت مسارات يمكن البناء عليها بدءاً من نتائج زيارة وزير الخارجية الإيراني إلى الدوحة، وما أعلنه عن مؤشرات جادة لحوار إيراني خليجي، أو بتفاؤل طهران بمباحثات استئناف مشاركة إيران في موسم الحج المقبل، وبالتالي فإنّ أيّ تقدّم في مسارات أستانة إنْ حصل فسيكون ترجمة للتوافق الإيراني الخليجي بما يخرجها من إطارها السوري الصرف التي يحاول الكثيرون وضعها فيه.
عسكرياً يبدو الاشتباك على أشدّه في عقدتين رئيسيتين على الأرض السورية ترسمان مساراتها مستقبل الانتشار المسلح على الأرض السورية بمسمياتها كافة، ومعها تبدأ مفاعيل الحلول لأيّ سيناريو سياسي. فما بين تدمر وحلب ترتسم خطوط القوة الفاعلة على الأرض، فمعركة استعادة مدينة تدمر تتجاوز حدود المكان متقدمة على خارطة الاحداث عبر انتصار استراتيجي يمهّد لمحطات أخرى في مسار الحرب ضدّ الإرهاب، بالنظر لما تشكله المدينة من عقدة الوسط والجغرافية المشرفة على مناطق عدة من حدود العراق إلى الحدود اللبنانية، ومن دير الزور والرقة إلى الحدود الأردنية، فبالرغم من أنّ أيام المعركة كانت معدودة فإنّ العمليات اشتملت على أكثر من محور سيطرت خلالها على المدينة ووضعت الجيش السوري وقواته الرديفة داخل تدمر، لتستمرّ العملية مستهدفة جبال العامرية وطريق صوامع الحبوب والمحطة الثالثة شرق المدينة وصولاً لمدينة السخنة 70 كيلو بوابة الدخول للمنطقة الشرقية، وما يميّز العمليات العسكرية في تدمر أنها سيطرت على جبال العامرية على محور تدمر – دير الزور، بالإضافة إلى تمكين الخاصرة الشرقية للقوات المتقدمة في منطقة حقول النفط استثمر في تحرير حقل جزل، فيما يعدّ حقلا جحار والمهر بحكم الساقطين وهو ما يسمح للجيش السوري وحلفائه الوصول إلى حقل الشاعر من دون أيّ هجمات ارتدادية في المنطقة، والأهمّ أنه ينهي حلم داعش بربط الرقة بالقلمون الشرقي حتى الحدود اللبنانية. التطورات العسكرية لم تتوقف عند الريف الشرقي لمدينة حمص بل وصل صداها إلى حي الوعر حيث أثمرت جهود الوساطة الروسية للتوصل إلى وقف لإطلاق النار في مسعى لخلق أجواء مناسبة للمضي في تطبيق المرحلة الثالثة من اتفاق التسوية في الحي وإخلاء مدينة حمص من المسلحين، وما يواجه داعش في ريف تدمر ينعكس على وضعه في ريف حلب الشرقي، حيث تتوالى هزائم التنظيم الواضحة في الخروج المذل من قرى الريف الحلبي، ما يؤكد بأن التنظيم لم يبقَ له سوى دير حافر ومسكنة كمراكز ثقل وبنجاح الجيش السوري بإحكام الطوق حول دير حافر يجعلها ساقطة نارياً، ما يصعّب من صمود داعش في مسكنة أمراً شبه مستحيل، وهو ما يعزز فرص الجيش السوري بإنهاء تواجد التنظيم في ريف حلب بالتوازي مع وصول قواته مشارف المنطقة الشرقية انطلاقاً من تدمر السخنة.
عقدتان عسكريتان سترسمان مسارات التفاوض السياسي في جنيف ومستقبل سورية، تتمثّلان بمعركتين تُنهيان وجود داعش في ما بعد تدمر وصولاً لمشارف الرقة وفي ريف حلب الشرقي.