لن يمرّوا يا شام…
آمنة بدر الدين الحلبي
بعد أن حطَّ آذار ضحكاته الجميلة، وفردَ أعجازه الوردية استبشرتُ بعيد الربيع الجميل وسافرتُ على متن الحُلُم إلى سنين خلت، حين كان يداعب روحي تحت ظلال الياسمين، ويحاول أن يختلسَ قبلة صباحية مع فنجان القهوة الذي كنا نتشاركه معاً في إحدى ساحات الشام، وكل منَّا يرى صورته البهية على صفحته، ليرسم وجهَ الآخر على لوحاته، وتنطبع بصمات الشفاه هناك بصمت.
لكن الحُلُمَ أصبح مسروقاً تدعسُه رياحُ الغدرِ وأنيابُ الإجرامِ، لتبقى الدمعةَ سليلة الفؤاد وكأنني أصبحت مرصودة لأسطوانة منسية تراكم فوق قلبها الصدأ ولم تعدْ ترسلُ موسيقاها النقية في هذا العالم الذي امتلأ بالدماء.
رسالةٌ بشعة تلك، هي التي طالت قلب الشام وحرقت الحواس، واختلطتِ الدماء العراقية بالدماء السورية على ثرى الشام المقدس، حين أفلسوا من لعبة القمار التي انتهجوها بإدارة القرص، واضعين نصب أعينهم الفوز بالكعكة، لكنهم خسروا خسراناً مبيناً، فلم يكن الهدف صائباً، ولم يحقق ما يصبون إليه.
تعلقتْ عيناي بالشاشةِ الصغيرة أرصدُ مدامعَ الأطفال التي إذا وُزعت على العالم لأغرقته وجعاً وألماً، وحزن الأمهات اللواتي ارتديْن السواد، وعيون الثكالى التي خبا نورُ الحياة فيهما أصبحتْ مثل مصابيح مطفأة على حزام المدينة.
سرحتُ طويلا وأنا أتنقلُ من قناة إلى أخرى ونسيتُ كلَّ مواعيدي الصحافية، وأنا واجمة أمام جريمة بشعة هزتْ قلبَ العروبةِ النابض، وأيقونةَ العواصم دمشق، جريمةٌ نكراء من عصابة لا تملك بصراً ولا بصيرة، بل محاولة فاشية وفاشلة لتقويض المفاوضات السورية السورية، وتقويض أي اتفاق لوقف القتال، وإحلال السلام.
قُرع جرس الباب لأرى صديقتي منتصبة أمامي غلَّفَ وجهها حزنٌ من الصعب وصفه، ودمع لا يُكفكف، وحرقة الحواس تنتابها، بدأت تدور حول نفسها كالدراويش، كأنها امتطت صهوة الصعود إلى حياة أخرى، أو علّها بدورانها هذا تستقبل وجه الله محبة.
خفتُ من انهيارها، لكن مع بدء الدوران وتحليقها، صبّتِ السكينة على روحي، فالدمعُ غسلَ وجهها وهي مبتهلةٌ إلى خالق السماءِ والأرض تطلب الرحمة لمن فقدته تحت عيون الأعمدة، وعلى قارعة الأرصفة، غارقٌ بدمائه جثة هامدة، كان يبحث لها عن هدايا النيروز كي يقدّمه لها في عيدها.
بعد دوران دام ربع ساعة هدأ كيانها وامتثلت أمامي جسداً بلا روح وهي تتمتم: قتلٌ ودماءٌ، إنها وسيلة أخرى للمجرمين الذين فقدوا زمام الأمور، إثر تكبّدهم هزائم متتالية في مختلف الميادين، وتجرعهم كأس المزيد منها، فما كان منهم إلا أن لجأوا للقتل والتفجير والتفخيخ، أسفر عن عشرات الضحايا ومئات الجرحى والمصابين. عالمٌ مغسولة فيه الأدمغة من أجل حور العين التي شغلت القاصي والداني.
وعادت لتضحك ضحكة هيستيرية أرعبت مفاصلي، لكنها استدارت.
قالت: شتَّان بين أناس تجمعهم الروح والأمل والتفاؤل، وتفرقهم تفجيرات القتل أشلاء متناثرة، في شهر آذار الذي كنت أنتظر فيه لقاءه وأستعيد الذكريات.
قال: أهيئ نفسي لـ ظلكِ، بل لاحتضانك.
قالت: إن الطريقَ إلى مواسمِ الحبِّ مزهرٌ بعيدِ الربيع أضيْقُ من بوحٍ، وأوسعُ من حرقةٍ في الشفاه تذوبُ على شفقِ الغياب.
قال: سكبتُ عشقي في حروفٍ، جمعتها لك في عرائش ياسمين. وجرارٌ من عطر، وكرومُ عنبِ لا تنفذ منها الدنَّان.
قالت: لك صباحٌ من ياسمين وفلٌ في سلال البوح.
قال: أتلمظ اسمك يا شام لا يغادر شفاه قلبي ويذوب طعمه على شفتي مثل برحية سقطت للتوّ من مخبئها.
صمتتْ صمتاً مرعباً وهي تقبل منديل كان هدية منه، وأنا أرنو إليها بصمت مُطْبق، وليس بيدي ما أفعله كي أخفف فقدها، إلا بضع كلمات تحمل مفاهيم الصبر الأبكم، لكني أقرأُ فقهه، وأصمّ فأسمع صوته، وأهمسُ في ذاكرته الهائجة كي يهطلَ الأمل، لأمنحها ضياء الله في مرايا الروح.
قطعت حروف صبري وانتفضت ترتجف من شدةِ الوجع، والحزن، تمنيتها أن تصرخَ لتُخرجَ ذاك الألم الدفين الذي استوطنَ جسد ذاكرتها، لكن محال عمر الذاكرة أطول من عمر الجرح.
قالت: حين كان يداعبني بحروفه كان يرسم بالكلمات، منمنمات مثل لوحاتك، لكنها كانت تعجٌّ بالعشق.
قال: انتظرُ مواسمَ الحبِّ في عيد الربيع لنحقق ألوهية على وجه الأرض.
قالت: مواسمُ الحب سأطبعُ عليها اسمكَ بشفاهيَ الوردية.
قال: لأرى ظلَّ شفاهك يشربُ كل اللغات التي ستقول أحبك.
قالت: لكنني أكثر ما أخشاه حرف الراء أن تشطر قلب الحب.
قال: بدأتِ الحرب الباردة وسأصيغُ لك من شفاه الياسمين عقد الحب، وأتكئُ على زند الريح لأصل لك مع عيد الربيع يا شام.
نظرتُ إلى وجهها وقد خنقته الآلام، والدمعُ هطلَ على قلبها كأني أسمعُ صوتَه المرعب، يشهقُ على فراق حبيب ومنزل.
قالت: على مرايا الروح بقيَ ظل الحبيب وتاهتْ مني كل الفصول، حين سرقوا الفرح.
قلت: لن يمروا يا شام، ولن يكسروا فرح الربيع، نحن لهم بالمرصاد.
قالت: إلى مواسم الموت.
قلت: إلى مواسم العشق والعشاق يشتعلُ الحب هناك على الأرض المقدسة.
قالت: تحملين الأمل.
قلت: الأمل مثل مشكاة فيها مصباح، والمصباح مثل كوكبٌ دريٌّ يُوقد بشموع النصر، ولن يمروا ولن يكسروا فرح الربيع، فكوني صامدة يا شام، فالغد أجمل، لمواسم عشق تحمل معها الفرح الكثير.