لسنا مجرد أسرى… بل نحن وطن وقضية فمن معنا؟
نصار إبراهيم
في لحظة تبدو باهتة وتفتقد للوضوح واليقين، في لحظة تبدو فيها السماء ملبّدة بغيوم اليأس والإحباط، فجأة ومن مكان ما يفاجئ الشعب الفلسطيني الجميع بصولة جديدة في ميادين المقاومة فيعيد تذكير الجميع بالبديهيات، ويعيد التذكير بالمعادلات التي تحكم الصراع بالمعنى التاريخي والسياسي.
في لحظة فلسطينية فارقة ينهض فجأة آلاف الأسرى الفلسطينيون مرة واحدة، يتجاوزن قيودهم وزنازينهم، يتجاوزون أسوار 22 سجن ومعتقل، ويعلنون المقاومة بجوعهم… فيصعد صوت الجوع الثائر من أعماق الليل وصحراء الاعتقال فيهز الوعي ويوقظ إرادة المقاومة في شعب بكامله.
في مثل هذه اللحظة حين يعتقد الكثيرون أنّ شعب فلسطين قد بلغ به اليأس ما بلغ، وأنه قد استنزف حتى النهاية في تناقضاته الداخلية، وأنّ ديناميات القهر والقمع والسيطرة قد نجحت في كسر شوكته، ونجحت في احتلال وعيه، فجأة تشق عتم الليل صرخة آلاف الأسرى فيضعون الجميع أمام خيباتهم وفشلهم في قراءة أعماق هذا الشعب الباسل والعنيد.
في مرحلة يعتقد فيها الاحتلال الاستعماري الصهيوني المديد أنه نجح في سحق روح الشعب الفلسطيني بالحروب الوحشية والاغتيالات والحصار والضغط والإخضاع الاقتصادي المنهجي والمنظم… في لحظة تبدو مغلقة من حيث الالتباس السياسي والانقسام الذي امتدّ به العمر حتى بات وكأنه ثابت في الواقع الفلسطيني، في لحظة تاريخية تنغلق فيها الخيارات سوى ما تتيحه معادلات القوة وعلاقاتها في الداخل ومع الاحتلال وفي الإقليم… ينهض أسرى فلسطين ويلقون بيان جوعهم ثورة وكرامة.
كيف ولماذا يحدث ذلك!؟
ما يحدث ليس سراً غامضاً أو ظاهرة غير طبيعية في سيرة هذا الشعب المقاوم…
ما يحدث هو شيفرة سهلة وواضحة، شيفرة جوهرها وأبجدياتها تنطلق من بديهة حاسمة أساسها: ليس أمام شعب تحت الاحتلال إلا أن يقاوم بما يملك لكي يكون حراً…
لهذا ليست المشكلة في وعي الشعب الفلسطيني لذاته.. بل المشكلة هي عند أولئك الذي لا يقرأون الشعب الفلسطيني جيداً.
المشكلة هي في أولئك الواهمين الذين يعتقدون أنّ القهر والقمع والقتل والحروب والمجازر ستجبر الشعب الفلسطيني على الرضوخ والسكوت…
المشكلة هي في من يعتقد أنّ بالإمكان خداع الشعب الفلسطيني ببعض الأوهام والخيارات الهابطة لكي ينسى ذاته وحقوقه… المشكلة هي في من يعتقد أنّ الشعب الفلسطيني يتعامل مع حقوق كتاجر مفرّق أو جملة…
المشكلة هي في من يعتقد أنّ الشعب الفلسطني هو مجرّد جماعة تركض وراء حسنة من هنا أو هناك…
المشكلة هي في من يعتقد أو يتوهّم أنّ شعباً يملأ شهداءه المقابر في فلسطين وخارجها سيقبل المساومة على دمائهم هكذا ببساطة.
اليوم ينهض الأسرى… ليعيدوا إيقاظ الوعي…
وحين نقول الأسرى الفلسطينيون فإنّ البعض لا يدرك معنى ذلك جيداً… فيعتقد أنهم مجرد مجموعة عابرة في التاريخ والوعي والذاكرة والواقع…
لهذا… ولمن ينسى نقول: منذ عام 1967 وحتى اليوم بلغ عدد من مرّ على السجون والزنازين الصهيونية أكثر من مليون فلسطيني… إذن لنتخيّل كم أسرة وكم مواطن فلسطيني عاشوا تجربة الاعتقال كألم وفقد وشوق وإهانة وأمل وفخر…!؟
واليوم لا يزال في المعتقلات الصهيونية ما معدله 7000 آلاف أسير وأسيرة… فلنتخيّل إذن كم أم وأب وزوجة وابنة وابن وأخ وأخت وصديق ينتظرون هؤلاء!؟
لكلّ هذا فإنّ أسرى فلسطين هم راية وطنية جامعة لشعب بكامله، هنا تختفي الفواصل والحدود والانتماءات فلا يبقى سوى فلسطين بكامل بهائها وجرأتها وصبرها الجميل.
أسرى فلسطين هم قضية فلسطين بذاتها، إنهم الحقوق الوطنية والتاريخية بذاتها.. إنهم قضية الإنسان الفلسطيني بذاته…
لكلّ هذا حين ينهض أسرى فلسطين في ليل سجنهم فإنهم يوقظون شعب فلسطين بكامله… إنهم الحدّ الفاصل ما بين الحق ونقيضه، ما بين الصدق ونقيضه، ما بين الرهانات القاصرة ونقيضها…
صرخة آلاف الأسرى الفلسطينيين الآن تتجاوز فلسطين إلى أمة بكاملها، بل إلى الإنسانية بكاملها… هنا شعب يرفض أن يرضخ وأن ينصاع… هنا شعب يتحدّى الموت ليكون.. هنا شعب قد يُدَمَّر لكنه لا يهزم ولا يستسلم…
إضراب الأسرى الفلسطنيين هو صرخة فلسطين الحرة للعالم… رسالة مقاومة من طراز رفيع…
اليوم يتحدّى الأسرى الفلسطينيون بجوعهم.. لهذا فجوعهم المقاوم قوة كاشفة… من مع فلسطين ومن ضدّها… فليس هناك أيّ مساحة للتمويه والمراوغة والالتباس… إما مع فلسطين وإما ضدّها… فلا يوجد خيار بين بين!
اليوم هو نداء الجوع الفلسطيني المقاوم… وسنرى من سيقف مع الجوع ضدّ «إسرائيل» وحلفائها… اليوم سيعرف الأسير الفلسطيني من سيمسك بجوعه ويقاوم معه ومن سيحاول كسر إرادته ويمدّ يده من تحت الطاولة أو فوقها ليصافح السجان الإسرائيلي سراً أو علانية…
اليوم يضع الأسرى الفلسطينيون الجميع أمام واجب المسؤولية… يقاتلون بجوعهم… ومهما تكن النتيجة فستبقى فلسطين فوق ما عداها.