مختصر مفيد
مختصر مفيد
منطقة ما بين دجلة والفرات والمشروع الأميركي
حاول الأميركيون منذ أول وجود عسكري لهم في سورية رفع شعارات كبيرة، تنقلت من الادعاء بعنوان الحرب على الإرهاب والسعي لتغيير موازين القوى العسكرية لإضعاف الدولة السورية وإنهاكها وصولاً لمساومتها أو تغيير هيكليتها تمهيداً لتغيير هويتها، لكنهم مع إدارتي باراك اوباما ودونالد ترامب استوعبوا عبر تقارير مؤسساتهم العسكرية والأمنية حقيقة حدود القوة التي يملكونها على إحداث فرق كبير في موازين القوى، خصوصاً بعد التموضع الورسي المباشر في الحرب، وأعادوا رسم أهدافهم بواقعية تأخذ باعتبار المعطيات التي رسمها الميدان السوري في ذروة استنهاض عناصر القوة وتقابلها، والتي شكلت معارك حلب وبعدها معارك ريفي حماة ودمشق مثالاً ساطعاً على وجهتها.
يثير الأميركيون غباراً كثيراً حول موقفهم من الدولة السورية ورئيسها، وهم يعلمون عجزهم عن إحداث تغيير يجعل لأحلامهم وتمنياتهم أو لأحلام حلفائهم وتمنياتهم فرصاً واقعية لذلك يجهد الأميركيون لإطالة أمد الحرب في سورية لأطول زمن ممكن، كهدف رئيسي لنشاطهم ومساعيهم، فلا يريدون حرباً حاسمة مع داعش، التي يرتبط وجودهم ومشروعيته السياسية لا القانونية ببقاء الحرب مع التنظيم قائمة، لذلك يهتمّ الأميركيون بإسناد داعش بصور غير مباشرة والسعي لإضعاف جبهات الجيش السوري التي تقابلها كلما شعروا أن التنظيم يعاني ضعفاً و خلللاكبيركبيراً أو خللاً خطيراً.
يسعى الأميركيون للضغط على روسيا وإيران وسورية ويجنّدون حلفاءهم لضغط موازٍ كي يثيروا قضية وجود حزب الله في سورية، بما هو أكبر من الوجود القتالي للحزب، وهو ليس أمراً شكلياً نظراً لأهميته الحيوية في الحرب، لكن ما يهمّ الأميركيين مبدأ هذا الوجود بعد الحرب أكثر من الوجود أثناء الحرب، لأن عينهم على أمن «إسرائيل» فيجنّدون السعودية وتركيا لوضع وجود حزب الله عنوان مقايضات لا يتوقفون عن عرضها أملاً ببلوغ لحظة تتيح وضع ضوابط معيّنة لحال جبهة الجولان تمنح «إسرائيل» فرص أمنها الضائع، وهم لذلك يحرّكون ما يُسمّى بجبهة الجنوب ويكثرون الحديث عن حرب مقبلة عبرها أملاً ببلوغ لحظة التفاوض التي حاول عادل الجبير فتحها في موسكو وأغلقها الروس.
قضية الأميركيين الأهم هي الاستثمار على عناوين الحرب في سورية والحرب على داعش وحرب الجنوب كثلاثي يلتقي في الجغرافيا السورية عند عقدة هي خط الحدود السورية العراقية، فتصير الحرب على داعش نقل التنظيم من الرقة إلى دير الزور ومن الموصل إلى القائم، وتصير حرب الجنوب هي تقدّم جماعات درّبها الأميركيون عبر الحدود الأردنية نحو المعبر الحدودي السوري العراقي في التنف، وتصير الحرب مع الدولة السورية هي تناوب أميركي «إسرائيلي» على قصف الجيش السوري أو إيصال الرسائل النارية إليه في محوري تدمر ودير الزور، وتبدو الجغرافيا السورية كلها مختصرة بمناطق بين نهري دجلة والفرات في سورية والعراق.
ما بين النهرين ثروات هائلة نفطية وزراعية ومعدنية، وحرمان سورية والعراق منها قوة للتفاوض معهما، لكن ما بين النهرين خط الحدود الذي يتيح الإمساك به فصل سورية عن عمقها في العراق وإيران وقطع تواصل المقاومة مع إيران، وإمساك بخطوط النفط والغاز العراقية والإيرانية نحو المتوسط عبر سورية، وصولا للتحكم بمستقبل التوجه الصيني كله نحو البحر المتوسط عبر الجسر الإيراني ـ العراقي ـ السوري، وما بين النهرين مساحة شاسعة من الصحاري والبساتين بعدد سكان محدود يتيح ضياع داعش فيها لتبرير حرب طويلة يديرها الأميركيون نظرياً ويبررون عبرها عملياً طول البقاء.
يتنبّه السوريون وحلفاؤهم لما يريده الأميركيون ويعملون ما يلزم كي لا يكون ويجزمون أنه لن يكون وأن مقبل الأيام يحمل الكثير الكثير.
ناصر قنديل
ينشر هذا المقال بالتزامن مع الزميلتين «الشروق» التونسية و«الثورة» السورية.