صُنعَ في أميركا
عدنان كنفاني
على إيقاع الضخّ الإعلامي غير المسبوق الذي ولّد «داعش» فجأة، ودون مخاض، ثمة من يعتقد، أنّ هذا الـ»داعش» نبت شيطاني سوّته الرمال في مكان ما، وأطلقته كموجة بربرية، تدفّقت من الشمال، اكتسحت مساحات من أرض شمال العراق، وإمكانية التمدّد شرقاً وغرباً وجنوباً.
يروّج الإعلام الموارب، بأنها موجة انفعالية في جسد فوضوي من دون عمود فقري، ليصبح فجأة كابوساً مرعباً أقضّ مضاجع شعوب وحكومات، وأجّج حماسة عالمية غير مسبوقة في كلّ المحافل الدولية تقريباً، حرّضت على تشكيل أحلاف «سياسية وعسكرية» تحضيراً لإعلان حرب، قالوا وردّدوا أنها قد تستغرق في مواجهة «داعش» سنوات، وبتكاليف مالية باهظة!
هكذا يبدو المشهد العام دولياً، وهكذا رُوّجَ له إعلامياً، وهكذا جرى ترتيب الأولويات بحرص كي يبدو، أنّ «داعش» هو بالفعل تنظيم إرهابي يسعى إلى تدمير العراق واستلاب خيراته، بينما هو تنظيم قد يكون «معتدلاً» لإسقاط «النظام» في سورية!
وزيادة في تكريس هذا التوجّه، تنادت القوى الأكبر في منظومة التحالف الدولي على خلفية رغبة القضاء على «تنظيم إرهابي» في سورية، لاستهداف مناطق محددة بدقّة تساهم بشكل فعّال في تقطيع أوصال الأرض والمساحات، وتهميش دور الجيش العربي السوري، وإضعافه، وهو الأصل في محاربة التنظيمات المتطرّفة المسلّحة وعلى مدى ثلاث سنوات ونصف.
لا يمكن لأحد أن يصدق بأنّ هذا التنظيم نبت فجأة من فراغ، وتدفَّق بجنون، ليحتلّ في زمن قياسي مدينة «الموصل» ومساحات شاسعة من الأرض وعشرات القرى في شمال العراق.
لقد شاهد العالم مئات السيارات رباعية الدفع، تمتدّ على طول «كذا كيلو متر» رتلاً، في أرض مكشوفة لا شجر ولا حجر، ومحشوّة برجال ورايات سوداء، وأسلحة، كلها قادمة من الشمال، حيث «بلا تعليق» لا مكان! بل موجة هستيرية أراد الضخّ الإعلامي المشبوه أن يغيّب حقائق واضحة عن ماهية هذا التنظيم، من يموّل ومن يدعم ومن يسهّل دخولاً وعبوراً ومن يغطي.
هذه الإيحاءات المقصودة من دول بعينها، تعمل بشكل واضح على مسارين… الأول سعي حثيث «لتضخيم» هذا الخطر الداهم على جميع الدول في المنطقة، وقد يمتّد إلى دول أخرى في العالم، قوامه مخلوقات تحمل فكراً غريباً ومثيراً، ساديّاً ودموياً، يعمل على تدمير الإنسان والأرض والحرث بوسائل عنيفة تستخدم أبشع ما يمكن أن يتصوّره إنسان سويّ من خلال «القتل المشبع» الفوضوي تبرّره «فتاوى» عاجلة تطلق الأحكام، وتوجّه للتنفيذ من دون أيّ اعتبار لمشاعر وعدل، وباستخدام السلاح الأبيض، سيوفاً وسكاكين وبلطات، وفي مشاهد «تنفيذ» مصوّرة ومنشورة ومعمّمة إعلامياً إمعاناً في بثّ الرعب والخوف.
وبالتالي، فهذا التنظيم، ومحاربته، تفرض الخروج عن النظم الدولية، واستباحة حدود الدول وسيادتها، وما يمكن أن يجري لتنفيذ مخططات أخرى، جديدة، في سورية بشكل خاص، المصرّة على عدم الانضواء تحت عباءة الأميركي والإسرائيلي، والمتمسّكة بخيار المقاومة كخيار استراتيجي، والتي استطاعت على مدى ثلاث سنوات ونصف إفشال كلّ «المؤامرات» التي استهدفت إسقاط «النظام» كمبرّر لإسقاط سورية، وتغيير شكل المنطقة، ولصالح «إسرائيل» بالمطلق.
أما الإيحاء الثاني، فهو ببساطة، السعي إلى تنفيذ مخطط تآمري جديد، ليس على سورية فحسب، بل على كلّ من يفكر «على مستوى دول أو مؤسّسات أو أفراد» أو يعمل أو يسعى للوقوف في وجه هذه الهجمة العامّة المدعومة «ببعبع داعش»، والساعية بالنتيجة إلى تنفيذ التآمر ذاته لتمزيق المنطقة، وافتعال حروب «تبدو» طائفية كفيلة بتدمير ذاتي للقدرات العربية.
هذا التدفّق الأرعن المفاجئ ليس طفرة، بل هناك من احتضن وموّل ورتب ونظّم، وهو ليس فوضوياً، بل على العكس تماماً، مستوى التنظيم يبدو جيداً، سواء بالمعلومات الاستخبارية التي يملكها، وفي توزيع القيادات والمهام، وفي خلق وسائل الترغيب لاستقطاب عناصر.
هذا التنظيم ترعرع في بيئة حاضنة وفّرت له الأرض والإمكانات والسلاح والتدريب والتغطية الإعلامية والخدمات الاستخبارية واللوجستية، وجمعت له أكثر المتطرّفين شهوة إجرام من أنحاء العالم، ورفعت على ناصيته شعارات دينية خبيثة مشفوعة بفتاوى من «مشايخ» متنفّعين، يحملون أفكاراً متطرّفة «وهّابيين وإخوان مسلمين»، ثم أطلقتهم وحوشاً يعيثون في الأرض فساداً.
الأرتال التي تدفّقت من الشمال، هي قادمة «حكماً» من تركيا، حيث وفّرت لها كلّ ما أقامها على الحياة والنموّ والقدرة.
وتركيا لا تعمل منفردة من دون ضوء أخضر من أميركا ومن الاتحاد الأوروبي.
وتركيا ليست قادرة على هذا الحجم من التمويل، لذلك هناك أيضاً دول «السعودية وقطر وبعض دول الخليج» تعهّدت بالتغطية المالية.
وكي يكتمل مستوى التنظيم، ومساحات التدريب، ومناطق الانطلاق، والدعم والتغطية، كان لا بدّ من خلق بيئات حاضنة أخرى، لها أيضاً مصالح في «إسقاط النظام»، وفي تقديم عرابين الولاء للامبراطورية الأمريكية وأوروبا و«إسرائيل»، وإحكام الحصار على سورية، وفي تقسيم العراق ورسم خارطة جديدة للمنطقة «شرق أوسط جديد»، فكان للأردن «كحكومة» دور، وفي لبنان «كفئات وأحزاب أصبحت معروفة» دور أيضاً.
الصمت المطبق يغطي المشهد العربي بالكامل نتيجة «موت» القرار العربي، وإلغاء دور جامعة الدول العربية بعد أن أصبحت مملوكة لأمراء الخليج.
وعلى ضوء هذا كلّه، تؤشّر الدلائل إلى أنّ «المؤامرة» فعل سيستمرّ، كما تشير وبوضوح إلى أنّ سورية مستمرّة في الصمود والمواجهة، متمسّكة بالثوابت الوطنية والقومية، فليس أمامها إلا أن تكون.