هل استراتيجية وزارة يمكنها مواجهة الفساد السياسي؟
د. لور أبي خليل
نفّذت الحكومة الحالية مبادرة لمكافحة الفساد صدرت من وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية والتي تُقدّر على ما قدّمته أولاً من حيث إن المبادرة نتجت من امرأة وأثبتت قدرة المرأة على الحكم واتخاذ القرارات، وثانياً لأنها خطوة عملية في طريق الإصلاح. جاءت هذه المبادرة عبر اتخاذ قرار بإدخال المكننة على الإدارات والمؤسسات العامة كافة بهدف محاربة الرشوة التي هي شكل من أشكال الفساد الإداري ونوع من أنواع الفساد. لذا وجب علينا التمييز بين الفساد الذي يقوم به الموظف العادي وما هو إلا فساد صغير وبين الفساد الذي يقوم به زعيم أو وزير ويُعتبر فساداً كبيراً. يُفترض بنا إذاً أن نطرح الإشكالية التالية: ما هو الفرق بين الفساد الكبير والفساد الصغير؟
إن معايير تمييز الفساد اختلفت، وهذا الاختلاف أوضح الفصل بين الفاعل والنسق الذي فسّر ارتباط قيمة الفساد بالمعيار المادي، فكلما كانت قيمة المال الفاسد مرتفعة تُعَدّ الجريمة كبيرة والفساد كبيراً وبخلافه بالنسبة إلى الفساد الصغير. مما يعني أنه كلّما ارتفع منصب الموظف في الهيكلية الإدارية اعتُبر فساده كبيراً، خصوصاً إذا طال الفساد قطاعات أساسية مثل الأمن والعدل والتربية والصحة وغالباً مَن يرتكبه يكون محصناً ضد الملاحقة القانونية لظروف سياسية أو اجتماعية، مثل زعيم طائفة أو حزب أو وزير. وتجدر الاشارة أن هناك بعض التشريعات التي تحمل في طياتها بعداً ينمّ عن فساد أو محاباة أو استفادة لجهة ما من دون وجه حق، كالرواتب التقاعدية المبالَغ بها أو امتيازات الوزراء أو النواب. وعندما يكون الفساد نتيجة تخطيط مسبق من المرتكِب يكون أيضاً فساداً كبيراً كالاختلاس مثلاً وشراء الأصوات وتزوير النتائج وعدم شرعية مصادر أموال الدعاية الانتخابية. كل ذلك يُعتبر تزويراً لإرادة الشعب وإفساداً لمبادئ الديمقراطية. إنّ بعض صور الفساد تكون أساساً لمظاهر الفساد مثل تعيين الموظفين في المناصب بحسب المحسوبية من دون النظر إلى معايير النزاهة والكفاءة فيكون الفساد الممهّد لفساد أكبر هو أيضاً كبيراً. ومن خلال هذا التحديد للفساد الكبير نستطيع أن نستنتج أن نظام المكننة التي قدّمته وزارة التنمية الإدارية يشمل الفساد الصغير فقط الذي هو أقل خطورة للمنظومة الاجتماعية من الفساد الكبير، لأنه عبر المكننة يمكن إيجاد قواعد إصلاحية لحلّه والفساد الصغير يجري عادة من دون تخطيط المرتكب مثل التأخر عن الدوام الرسمي وقبول رشوة لإنهاء معاملة، أما الفساد الكبير فله مفاعيل خطرة على الحياة الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، لأن مرتكبيه يقومون بالتخطيط للصفقات الكبرى قبل إتمامها.
يأتي مشروع المكننة حلاً للفساد الإداري، أي الفساد الصغير. فيميز الباحثون عندها بين الفساد الكبير والفساد الصغير الذي يفصل الفساد السياسي عن الإداري. الأول هو فساد كبار رجال الدولة ويرتبط بالصفقات الكبرى والمقاولات والاستثمارات ويُعرف عادة بالفساد السياسي والمالي، وبفعله تتحوّل الوظائف العليا أدوات للثراء الشخصي. يُعتبر الفساد السياسي فساداً كبيراً وهو الذي ينتشر في أعلى دوائر السلطة السياسية، حيث إن المسؤولين الذين يُمسكون القرار السياسي يستعملون سلطتهم لتثبيت مكانتهم، إذ يعملون على تفضيل التشريعات والخدمات والمعاملات إلى ما هنالك بما ترى مصالحهم. على سبيل المثال المناقصات والمزايدات التي تُجريها الدولة. أما الفساد الصغير فهو فساد الطبقة الدنيا على مستوى قاعدة الهرم الحكومي أو ما يقوم به صغار الموظفين، كما يبرز في السلوك الشخصي المحدود الذي يتمثّل في دفع الرشوة والعمولة للموظفين لتسهيل عقد الصفقات أو الاستفادة من الخدمات وتبديد المال العام. والفساد الصغير او الإداري او البيروقراطي إذ هو مرتبط بإنجاز المعاملات الفاسدة في الإدارة يأخذ شكل تبادل مبالغ نقدية تتمّ بشكل رشى لتسريع المعاملات أو لتوظيف أحد في مراكز غير قيادية. وهذا الفساد عملياته كبيرة جداً عددياً قياساً بالفساد الكبير. مثلاً إنه قد يقع في اليوم الواحد آلاف المرات، ومن قبل عدد كبير من الموظفين كأخذ موظف رشوة لإنجاز معاملة ما. ولا يرتبط الفارق بين الفساد بالحجم وحده، بل بالفارق الأساسي الذي يعتبر أن الفساد الصغير هو ثقافة فيما الفساد الكبير سياسة.
إن الفرق بين الفساد الكبير والصغير هو الدافع إليه، مما يعني أن الموظف الصغير يرتكب الفساد لتلبية حاجاته اليومية، أما الموظف الكبير فإنه غالباً ما يكون الفساد بالنسبة إليه لزيادة ثروته وبالتالي نفوذه.
كيف ذلك؟
إن الفساد الصغير هو حل لمشكلات صغيرة عدة، إذ يهدف الى تيسير أعمال المواطنين من دون عراقيل، فيدفع هؤلاء الرشوة التي يقبلها الموظف أو يستجرّها، لأسباب عدة منها: تدنّي مستوى الأجور مما يؤدي الى عدم الكفاية أضف الى ذلك حاجة الموظف الى الإثراء أسوة بالميسورين في محيطه، في ظل نظام اجتماعي يستمد الناس قيمتهم فيه مما يملكون من مال أو مناصب. وهنا نستطيع أن نقول إن علاقة تبادل المنافع تصبح علاقة موضوعية لا معنى لإدانتها من دون إدانة النظام الذي يقوم عليها. فيكون الفساد الصغير إذاً إما رشوة وإما وساطة. أما الفساد الكبير فهو مسألة ميزان قوى اجتماعي يحظى الأشخاص فيه على صفقات كبرى بحكم قربهم من دوائر الحكم. كما يمكن أن يتخذ شكل وضع يد من قبل مسؤولين حكوميين على موارد عامة، لأنهم أصحاب نفوذ ويملكون الحصانة السياسية أو الاجتماعية، وهذا الفساد هو نوع من احتلال الدولة.
والسؤال الذي يُطرح هل باستطاعة وزير الدولة لمحاربة الفساد أن يضع استراتيجية خاصة لمحاسبة مرتكبي الفساد الكبير ومتى؟
دكتورة في العلوم السياسية والإدارية باحثة وخبيرة في شؤون التنمية الاجتماعية ومكافحة الفساد