الحجّ المقدّس ليس مقدّساً
العلامة الشيخ عفيف النابلسي
في الذاكرة التاريخية لواقعة كربلاء والتي لا تزال كلّ مفردة وصورة فيها حيّة في عقولنا وقلوبنا. يترك الإمام الحسين مكة المكرمة وبيت الله الحرام وييمّم وجهه شطر الصحراء. ترك الواجب لما هو أوجب، وترك المقدّس لما هو أقدس.
ولأنّ الصراط المستقيم هو السبيل إلى الله، هو الهادي إلى الحقيقة. لا يخرج عنه الحسين، وهو يعرف أنّ مكة لا معنى لها إن تسلط عليها حكام الجور، وأنّ الطواف حول بيت الله لا قيمة له إن كان طوافاً بالأجساد فقط، بل إن ّمثل هذا الطواف هو دوران بلا معرفة وبلا هدف.
بينما كانت غايته في التوجه إلى الصحراء أن تطوف روحه حول الله، وأن يكون مقصده النهائي هو الله وحده، لذلك اختار أن يخرج من المكان إلى الزمن، ومن الأرض المقدسة إلى الشهادة المقدسة وقال: «مَن لحق بي منكم استُشهد ومَن تخلّف لم يبلغ الفتح».
نعم، الحسين أوضح بحركته هذه أنّ الحج الحقيقي يكون بالخروج من مكة لا البقاء فيها. والعبادة الكاملة تكون بالشهادة لا المكوث مع الضاجّين حول الكعبة وحرمة المؤمنين منتهكة.
مناسبة هذا الكلام ما يجري اليوم على مستوى المنطقة من عمل دؤوب لتطبيع العلاقات مع الكيان الصهيوني. آل سعود يقودون قافلة العرب نحن تسوية نهائية، ويبدو أنّ السيناريوات تكتمل لبلوغ هذه النقطة الحاسمة عما قريب. مسؤول أمني في دولة الإمارات العربية يتحدّث بصراحة عن التطبيع والعلاقات بين الجيران. مسؤول آخر في السعودية يشارك في اجتماعات علنية مع صهاينة. إعلاميون سعوديون وسوريون ومصريون وفلسطينيون يشاركون في برامج حوارية على القنوات «الإسرائيلية».
وفود ثقافية وتجارية تزور دولة البحرين وترقص في ردهات فنادقها. ثم يأتي في لبنان مَن يقيم ندوة عن «الحجّ المقدّس» تكلّم بعضهم منذ مدة مثل فارس سعيد عن السلام في إحدى المقابلات التلفزيونية. الرجل يتحدّث بجرأة وحرية ولم يعد يأبه لكلّ هذا التاريخ من التضحيات العربية والمسيحية والإسلامية في سبيل انتزاع الحق وإبطال مفعول الاحتلال الذي تكرّس بوعد بلفور البريطاني المشؤوم.
اليوم يقوم مع مجموعة من السياسيين من مختلف الطوائف حملة لتصبح الزيارة إلى الأماكن المقدّسة المسيحية متاحة لكلّ مؤمن. صار فارس سعيد مؤمناً ويهتمّ للمؤمنين المسيحيين ويُلفت انتباه الناس إلى المثل الدينية العليا! يا للعجب! ويا للزمن الذي نحن فيه. الذي يصبح فيه الحج أهمّ من معاني الحج نفسه. فما معنى أن تصلّي إن لم تنهِكَ صلاتُك عن الفحشاء والمنكر. وما معنى أن تصوم إنْ كان صيامك عن الجوع والعطش فقط. وما معنى حجك إنْ كان نيلاً لـ«بركة» الاحتلال وليس لبركة السيد المسيح.
مهمة هؤلاء واضحة هو البحث عن طرق لتطبيع العلاقات مع الكيان «الإسرائيلي»، وليكن الحج مطيّة لذلك. هؤلاء يريدون تحويل المسيحية من دين يرفض الظلم والغصب، إلى دين من طقوس خاوية. سياحة وزيارات وتعاويذ وبركات وقداديس. أما حرّاس الاحتلال فلا شأن للدين بهم، وأما القتلة واللصوص فالعين لا تراهم ولا تشاهد أفعالهم. الآن يرتكب آل سعود بحق الإسلام جريمة كبرى من خلال طمس القضية الفلسطينية ومعاقبة الفصائل المقاومة تحت عنوان مكافحة الإرهاب والقبول بالاحتلال ضمن شروط مذلّة يسمّونها تسوية.
ويُراد من الجانب المسيحي أن يكون هناك مَن يدعو إلى «السلام» الأجوف الذي لا يعترف بالمظلومين والمبعَدين واللاجئين وكلّ العذابات والمآسي التي طالت الفلسطينيين منذ مطلع القرن الماضي. سنقول بصراحة: إنّ مثل هذه الندوات التي تنزع إلى التسوية الرخيصة باسم الدين لن تحقق سلام المسيح ومحمد، عليهما السلام.
سلامهما يبدأ من رفض الظلم وإحقاق الحق ومواجهة الباطل. سلامهما يبدأ حين تكون الحجارة بيد الأطفال والزيت في يد النساء والبنادق بيد الرجال!