أهداف القواعد العسكرية الأميركية في سورية ومصيرها
العميد د. أمين محمد حطيط
في كانون الأول 2016، وبعد أن تيقّنت أميركا أن حلب باتت في متناول الجيش العربي السوري وحلفائه، سارعت الى التحرك في المنطقة الشرقية من سورية وتحديداً منطقتي البادية والحدود السورية مع العراق، للسيطرة عليهما وفرض فصل استراتيجي بين العراق وإيران من جهة وبين سورية ولبنان، حيث حزب الله من جهة أخرى.
وكانت بداية التصرف الأميركي في الجنوب الشرقي إقامة مركز عسكري قرب معبر التنف على طريق دمشق بغداد الذي سيطرت عليه داعش، منذ أكثر من سنتين، وبرّرت أميركا يومها تصرّفها بأنه من أجل تدريب قوى سورية محلية قادرة على مواجهة داعش وطردها من المنطقة، ولتكون متكاملة في عملها مع «قوات سورية الديمقراطية» الكردية التي تتولّى المهمة على الجزء الشمالي من الحدود الشرقية مع العراق. ما يعني أن أميركا تكون قد تولّت مباشرة وعلانية إدارة الملف الميداني في سورية لجزء أساسي منه بهدف محدّد، هو إقامة منطقة الفصل التي كانت تروّج لها مع ترامب بعنوان دعائي إعلامي تدّعي فيه أنها تريد إقامة المنطقة الآمنة من أجل إعادة النازحين السوريين. وهو ادعاء نعرف انه سخيف بخاصة إذا تم ربطه بمنطقة الحدود الشرقية غبر المأهولة أصلاً فهي بادية صحراوية بعيدة عن الماء والشجر ولم يُقَم فيها بناء أو حجر.
تدّعي أميركا بأن مركز التنف قدّم الخدمات التدريبية لحوالي 6000 فرد سلّحتهم وجهّزتهم ونظّمتهم تحت عناوين مختلفة مثل «جيش سورية الجديد»، «مغاوير الثورة»، و«أسود الشرقية»، الذين تعوّل عليهم للتكامل مع «قسد» ليكون الجمع أداتها في إقامة منطقة الفصل الاستراتيجي المبتغاة.
هنا أدركت سورية جوهر الخطة الأميركية الجديدة، فسارعت مع حلفائها وبالتنسيق المستتر مع العراق لوضع خطة معاكسة تهدف إلى منع القوات المدعومة أميركياً من التمدّد داخل البادية السورية، ثم الإمساك بالحدود السورية العراقية وصولاً إلى تحقيق التواصل البري مع القوات العراقية من جيش وحشد شعبي. وانطلق محور المقاومة سريعاً الى تنفيذ هذه الخطة لقطع الطريق على أميركا ومنعها من تحقيق هدفها الاستراتيجي الذي اذا تحقق سيكون من شأنه اختزال الكثير من المكاسب الاستراتيجية التي حققها في معارك الدفاع والمواجهة بخاصة خلال العام 2016.
وبدأ تنفيذ الخطة السورية المعاكسة، في استعادة السيطرة على تدمر التي تشكل في موقعها وأهميتها القاعدة الخلفية التي منها يمكن التوزّع والانطلاق الى البوكمال عبر دير الزور، حيث داعش والى الرقة شمالاً، حيث تريد أميركا تسليمها الى «قسد». ومن تدمر أيضاً يمكن توفير إسناد متبادل لمحور التقدم العسكري باتجاه البادية الآتي من ريف دمشق على طريق بغداد مروراً بالتنف، حيث يتمّ تدريب جماعات مسلّحة تُعدها أميركا لتنفيذ خطتها في الجنوب الشرقي لسورية.
وأقرنت الخطة السورية المعاكسة وحتى تكون كاملة، مع خطة خاصة بريف حلب الشرقي ابتغت منها القيادة السورية تحرير كامل المنطقة الواقعة بين حلب وبين نهر الفرات ثم التحوّل جنوباً لملاقاة القوى المتقدّمة من تدمر، من دون أن تهمل القيادة موضوع دير الزور والجيش العربي السوري الممسك بالمطار ومناطق أخرى في محيطه، حيث لحظ له الإسناد الدائم جواً الذي يعزّز صموده ويمنع سقوطه بيد داعش المحرّكة والمدعومة أميركياً كما اتضح جلياً ومن غير لبس، عندما استهدف الطيران الأميركي مواقع الجيش هناك من أجل تمكين داعش من السيطرة عليها وإخراج الجيش السوري منها.
لقد كانت الأشهر الثلاثة الماضية زمناً حرجاً وهاماً على صعيد الدفاع عن سورية وإفشال خطة عدوان أميركي جديدة، وكان معيار الانتصار هنا وصول الجيش العربي السوري وحلفائه الى الحدود العراقية من الغرب ووصول الجيش والحشد الشعبي العراقيين الى الحدود من الشرق ليتحقّق الاتصال الاستراتيجي بين قوى وطنية مقاومة للمشروع الأميركي الاستعماري القائم على منطق التجزئة والفصل والتشتيت.
ولأن للموضوع مثل هذه الأهمية، فقد أولت القيادتان السورية والعراقية ومعهما الحلفاء في محور المقاومة وروسيا الأهمية البالغة لتحقيق الإنجاز بسرعة واحتراف. وهذا ما حصل، إذ ورغم التدخل العسكري الأميركي المباشر والضغط على الحشد الشعبي العراقي لمنعه من التحرك الى الحدود والضغط على الجيش العربي السوري واستهدافه بالنار المباشرة في دير الزور، ثم في منطقة التنف وأخيراً إسقاط طائرة حربية قرب الرصافة جنوب الرقة، رغم كل ما بذلته أميركا لمنع القوات السورية والعراقية من التلاقي والعناق على الحدود، فإن هذه القوى داست على الإرادة الأميركية وقبلت التحدّي وارتضت بتقديم التضحيات من أجل تنفيذ المهمة، ونجحت وتحقق الاتصال الاستراتيجي البري بين مكوّنات محور المقاومة لأول مرة في تاريخ هذا المحور منذ الثورة الإسلامية في العام 1979.
كان للعناق السوري العراقي على الحدود مفاعيل كارثية على معسكر العدوان بقيادة أميركية. وهو ما وصنفناه بأنه العناق بين الإخوة والأصدقاء الذي قاد الى اختناق بين الخصوم والأعداء. عناق دفع أميركا الى التصرف الميداني الهستيري الذي لا يُقدم عليه إلا شخص أسقط بيده واختلّ توازنه الذهني واختلطت عليه الأمور. وكنا نتوقع بعد هذه الهزيمة الاستراتيجية أن تتجه أميركا الى واحد من أمرين: إما الإقرار بانتصار معسكر الدفاع والبحث عن طريقة تحفظ ماء وجهها وتحميل الخسارة في الميدان لغيرها، او الإقدام على عمل جديد يكون بمثابة خطة بديلة تمكنها من امتلاك أوراق ضغط للمناورة والادعاء بأن في جعبتها من السلاح ما يمكن طرحه في المواجهة.
و يبدو أن أميركا المربكة، لن تقدم سريعاً على خيار الإقرار بانتصار سورية، رغم ان آخر سفير لها في دمشق فورد أشار الى هذه الحال في مقابلته الأخيرة مع صحيفة من إعلام معسكر العدوان، ولو كانت أميركا تتصرف موضوعياً ومنطقياً وقانونياً، لكان عليها أن تقر بأنه لم يعد لديها مجال لمناورة او تخطيط جديد لمتابعة العدوان على سورية. فالحرب على سورية ومحور المقاومة انتهت بالعرف الاستراتيجي والعسكري، ولن تجدي المكابرة نفعاً، لا بل قد تعمّق الهوة وتزيد الخسائر، وان الأدوات المحلية التي تعتمد عليها أميركا من «قسد» الى مغاوير وأسود البادية ليس بمقدورهم الوقوف بوجه الجيش السوري ولو أسندتهم أميركا بطيرانها. وما حصل في رصافة جنوبي الرقة خير دليل، حيث لم يمنع إسقاط الطائرة السورية الجيش العربي السوري من تحرير البلدة بمهلة 24 ساعة فقط.
أما التعويل الأميركي على سلسلة القواعد العسكرية التي بدأت بإنشائها من غرب الحسكة الى التنف، مروراً بالطبقة، فإنها أيضاً لن تعيق مشروع تحرير سورية من الإرهاب ومن داعميه وفي طليعتهم أميركا ولن تحقق الفصل المطلوب. وإذا كانت أميركا تظن أن هذه القواعد التي تسرع في بنائها وإقامتها ستكون دائمة ومستقرة، فإنها تخطئ كثيراً، فهذه القواعد ستتحول الى رهائن بيد محور المقاومة الذي وجّه لأميركا رسالة «ذو الفقار» الصواريخ الإيرانية المؤثرة ولن يكون وجودها مقبولاً او مشروعاً مهماً جهدت أميركا بالعربدة والمكابرة لحمايتها وادعاء حقها بالدفاع المشروع عن النفس. وهو طبعا ادعاء باطل.
إن لجوء أميركا إلى تنفيذ سلسلة القواعد العسكرية لتتخذها خط فصل عسكري يعوّض فشلها في إقامة المنطقة الآمنة الفاصلة لن ينجح في تحقيق المراد أميركيا مع إصرار محور المقاومة على متابعة معركة التطهير والتحرير وإخراج أي عدو إرهابي وأجنبي من البلاد، مهما ارتفع الثمن وعلى أميركا أن تتذكّر جيداً مصير قاعدتها في بيروت 1983 ومآل احتلالها للعراق 2003، وأن تعلم أن قواعد لن يكون فيها أكثر من 8000 عسكري لن تكون قادرة على تغيير استراتيجي أو فرض واقع يناسبها ولهذا نعتبر أن اللجوء الى قواعد احتلال عسكري لن تجدي أميركا نفعاً، لأنها في الأصل لن تكون ذات قدرات عملانية مؤثرة، ولن يكون بمقدورها البقاء والاستمرار الذي لا تملك مشروعيته أصلاً في ظل رفض بقائها من أصحاب السيادة على الأرض. وعلى أميركا أن تعلم أن الإنجاز الاستراتيجي الكبير كما وصفه الإمام الخامنئي هو مكسب لن يفرّط به محور المقاومة مهما غلت التضحيات.
أستاذ جامعي باحث استراتيجي