عبلة أيوب الخوري المذيعة القوميّة الأولى والألمع في لبنان والشام

لبيب ناصيف

من الرفقاء الذين لفتوا نظري في منفذية الطلبة الجامعيين منتصف سبعينات القرن الماضي، برقيّهم النفسي، وبتجسيدهم فضائل النهضة، أتذكر دائماً بكثير من الحب، الرفيقين رائد يوسف الدبس وكمال خوري. الأمين عبد الله حيدر رئيس مكتب الطلبة 1 في تلك الفترة يعرفهما مثلي وربّما أكثر.

في الأوراق الثبوتية هو كمال البوشي، أما في مختلف التعاملات فهو كمال خوري. موقفه من والده مماثل لموقف والدته، فلا يريد أن يحمل كنيته.

عائلة خوري، برأسها السياسي المميز فارس الخوري 2 وبرأسها الحزبي الأمين د. سامي الخوري 3 تستأهل أن يُكتب عنها الكثير 4 . كان يمكن أن يفعل ذلك الأمين نواف حردان وهو عرف العائلة جيداً، ونزل بضيافتها أكثر من مرة وذكرها في مؤلفه «على دروب النهضة»، إلاّ أنّ ما ورد لا يشكّل إلاّ جزءاً من كثير. وكان يمكن لأحد أبناء الراحلة أليس 5 أن يكتب، وفاءً لعائلة سطرّت حضوراً جيّداً في الحزب.

عبلة خوري

لأنها، مثل شقيقها الأمين سامي خوري، الأشهر من بين باقي الأشقاء والشقيقات، ولأنها كانت أول وأبرع مذيعة في الشام ولبنان، ما زال جيلنا يتذكر صوتها الإذاعي الذي لا يشبهه صوت رخامة وصفاءً وإلقاءً رائعاً.

ولأنها كذلك نحكي عنها.

بتاريخ 16/05/1990 نشر الصحافي طاهر أبو حمدان في جريدة «السفير» نص المقابلة التي كان أجراها مع الرفيقة عبلة خوري، ونورد أهم ما جاء فيها:

« كانت عبلة أيوب الخوري أول مذيعة في إذاعة دمشق. وأول صوت نسائي خرج من استديوهاتها، وبعد تسع سنوات من العمل في الإذاعة السورية، انتقلت عبلة الخوري إلى إذاعة لبنان في بيروت، وعملت فيها على مدى سبعة وعشرين عاماً، تلتها فترة قصيرة من العمل في إذاعة لندن.

وبعد هذا المشوار المهني الطويل، عادت عبلة الخوري إلى البيت الأبوي في بلدة الكفير. وهو البيت الذي سبق وانطلق منه عمها فارس بيك الخوري ليصبح رئيساً للوزراء في سورية لحقبة من الزمن. وفي البيت نفسه، الثقت «السفير» عبلة الخوري وكان لنا معها الحديث الآتي:

كان تعليم البنت في زمانك يصطدم بعوائق عديدة منها البيئة ومنها الإقتصاد، فكيف قُدّرَ لكِ أن تتعلمي خارج قريتك؟

إنه القدر الذي ينتزع الإنسان بخيط من حرير، ويشدّ به حتى يصل إلى المكان المقرّر. تسألني كيف تعلمت إبنة الكفير خارج قريتها. وأنا أقول إنها مشيئة الخالق التي تبنتها أمي وشدّت على يد الزمن بقوة ليقف معها أمام إرادة الوالد الرافضة لهذه الفكرة ومن خلفه المجتمع بأسره. ولكنني لا أخفي عليك سراً إن قلت لك إنني لا أحمل أي شهادة حتى السرتفيكا رسبت في امتحانها وأكملت دراستي من دون شهادات إلى الصف الأول الثانوي باللغتين العربية والفرنسية، ومن ثمّ بالإنكليزية. هذه باختصار قصة تعليمنا في مرجعيون أنا وأخوتي.

متى كان انتقالك إلى سورية ولماذا؟

الجواب هو مرّة أخرى: القدر. القدر الذي سحبني إلى دمشق. هناك تزوّجت، وكان زوجي خليل الأسعد من أكبر موظفي الدولة 6 . وكان عليه بحكم هذه الوظيفة أن يلتحق بمركزه في مدينة القنيطرة. فعشنا هناك منذ سنة 1943 وحتى 1947. ولا أخفي الُرقة التي تجرح مني الشرايين وأنا أتذكر القنيطرة. لقد عشت طبيعة الناس هناك. طبيعة البدو الذين يملأون جوانب المنطقة كلّها وهم «عرب آل الفضل» الذين كان أميرهم المميّز فاعور الفاعور من سلالة الرسول. والذي كنت أرى في سلوكه نبل العظماء وكرامة العربي الأصيل.

وماذا بعد القنيطرة؟

إلى اللاذقية لضرورات عمل زوجي. ومن اللاذقية إلى دمشق حيث توفّى زوجي وأصبحت في عرف المجتمع أرملة، وفي دمشق التي احتوتني من جديد، بدأت حياتي الإذاعية.

ومن الذي أوصلك إلى إذاعة دمشق؟

أنا وصلت بنفسي عن طريق إعلان عن إذاعة دمشق يقول إنّ الإذاعة تطلب مذيعات ومذيعين مذيعات للمرة الأولى في تاريخ سورية . ولم ينته المذيع من إعلانه حتى كان تصميمي قد أصبح نهائياً. فقصدت منزل نشأت التغلبي الذي كان مديراً للإذاعة. وكنت لم أزل مجلّلةً بالسواد حداداً على زوجي. وعرّفت عن نفسي بقولي «عبلة الأسعد» وكان يعرف من أنا عن طريق شقيقته. سألته عن شروط المباراة فأجابني أن يتقن المرشّح العربية وأن يلمّ بلغة أجنبية. ولكنه عندما عرف أنني أريد أن أرشّح نفسي قام عن كرسيّه والذهول يغطّي محيّاه وقال: «غير معقول. أنتِ… أنتِ…؟ أرجوك، هذا عالم بعيد عنك…» ولكنه رضخ أخيراً أمام إصراري وقبل بإجراء التجربة. وفي استوديو إذاعة دمشق، كان عليّ أن أقرأ مقطعاً من صحيفة، وكان نشأت التغلبي والأمير يحيى الشهابي خارج الاستديو يراقبان. ونجحت التجربة. وبقيت في إذاعة دمشق تسع سنوات مذيعة لنشرات الأخبار.

كيف مضت التجربة؟

أحببت العمل وحصلت مفاجآت كثيرة سيرد ذكرها جميعاً في كتابي الذي أعتزم نشره. منها الجدّي مثلما حصل عندما قرأت الملفّ الإتهامي بعد اغتيال عدنان المالكي والذي يحوي إنزال عقوبة الإعدام بأخي سامي، ومنها الطريف مثلما حصل عندما اقتحم جرذ كبير الاستديو حيث كنت أقرأ نشرة الأخبار. فصعدت إلى الطاولة واستمرّيت في القراءة من فوقها ولا أحد حولي كان يعرف ماذا يجري.

كيف تركت دمشق إلى بيروت آنذاك؟

جئت مأذونة إلى بيروت، وأتاني من يقول: لا ترجعي.

وكيف دخلت الإذاعة اللبنانية؟

عندما كان أسعد الأسعد مديراً عاماً لوزارة الأنباء، أرسل إدفيك شيبوب في طلبي. وفي مكتبه مدّ إليّ ورقة طالباً التوقيع عليها وتحديد الراتب الذي أشاء. وهكذا بدأت رحلتي في إذاعة لبنان لتستمرّ 27 سنة. وفي النهاية خرجت من يد أسعد بك الرحومة إلى أيادٍ جامدة كقطع الثلج، وما من عمل بوسعه أن يذيب الثلج. وبعد هذه السنوات الطويلة عدت إلى البيت من دون تعويض.

والسبب؟

السبب يعرفه المرحوم قائد الجيش السابق اللواء عادل شهاب، واللواء سامي الخطيب مسؤول الشعبة الثانية آنذاك.

ماذا يعني لكِ الميكروفون بعد هذه العلاقة الطويلة؟

اللاقط بحسب رأي العلامة عبد الله العلايلي يعني لي هذه القطعة من الحديد التي كنت أتمنى أن تبقى رفيقتي حتى نهاية العمر، شرط أن يكون ذلك في نشرات الأخبار فقط. ولا أتمنى الآن إلاّ أن أقدّم ولو نشرة واحدة كلّ اسبوع. هذا ما يعنيه لي رفيق الدّرب الطويلة ومؤنس الآخرين.

كيف عشتِ مع اللغة العربية السليمة خلال حياتك المهنيّة؟

طلبت يوم دخلت إذاعة دمشق من أستاذ يتقن اللغة العربية أن يسمعني مرّة في الأسبوع في المنزل كمدرّب. وهكذا أعطاني الأبواب الشائعة في اللغة لاستعمالها بدلاً من العودة إلى المنجد في كلّ لمحة من الزمن. وأيضاً أفادني جداً الرجوع الدائم إلى القرآن الكريم عملاً بنصيحة عمّي فارس الخوري.

ماذا تقول سيدة المذيعات إلى الشابات في هذا الحقل؟

أنا لا أنصح، بل أتمنى على كلّ فتاة ترغب في دخول عالم الإذاعة أن تسجّل صوتها، وتصغي إليه. فإن بكت فلتدخل عالم الإذاعة، وإن لم يهزّها هذا الصوت فلتذهب الى مكان آخر.

سُمَح لها، وحدها، بزيارة الأمينة الأولى

يروي الأمين د. سامي خوري في مؤلفه «أمل لا يغيب» ص 172 الآتي:

« كانت الأمينة الأولى قد انتقلت بعد حادث الجميزة إلى اللاذقية وبعد 8 تموز نقلها حسني الزعيم إلى دمشق ثم وضعها مع بناتها في دير صيدنايا تحت حراسة مشدّدة ولم يسمح لأحد بزيارتها أو زيارة بنات سعاده سوى شقيقتي عبلة الخوري التي قامت بزيارتين واحدة للبنات والثانية للأمينة الأولى. وكانت تعود من كلّ واحدة منهما منهكة من الحزن والبكاء.

مذكرات الأمينة الأولى جولييت المير سعاده ص 114 115

وفـاتهـا

عن جريدة «الديار» بتاريخ 14/11/1992

الكفير ــ مفيد سرحال

« شيعت بلدة الكفير والمنطقة في موكب مهيب أول مذيعة في الدول العربية، الأديبة عبلة الخوري بحضور المطران الياس نجم وعضو مجلس إدارة «تلفزيون لبنان» الدكتور نسيم الخوري وإعلاميين وشخصيات سياسيّة وإجتماعية.

بعد القدّاس والجناز في كنيسة القديس جاورجيوس في الكفير ألقى المطران نجم عظة قال فيها: نحن وإياكم نشيّع هذه الأديبة الراحلة التي عُرِفت بالذكاء وبالمعرفة والحكمة وبالأدب والصحافة نشأت في بيت كريم عريق كلّكم تعرفونه، عُرِف بالوطنية والعروبة الصحيحة الحقّة.

وأضاف: أربعون سنة قضتها في الإذاعة وكان الكلّ ينتظر أن يسمع صوتها وجمال صوتها ونبراته من أدبها: هنا دمشق، هنا بيروت، هنا لندن منها… وها هي اليوم تترك دنيا الفناء والعذاب وتذهب إلى الخلود والحياة السعيدة.

ثمّ ألقى الزميل سعيد معلاوي 7 كلمة أسرة وزارة الإعلام فقال: انطلق صوتها عبر أثير دمشق يطرب ويعلي شأن المحبة والسلام أينما حلّ، ولكم تقاذفته المسامع فدوى في إذاعة لندن وكان برداً وسلاماً على الآذان المرهفة العاشقة. لم يتعبه الطواف لكنه آثر العودة إلى العرين الذي انطلق منه.. لبنان الصوت والكلمة والجذور «.

نشكر الرفيق الياس عوض الذي زوّدنا هذه الكلمة للأديب عادل أبو شنب كان حرّرها بتاريخ 19/09/2006.

«في مطلع الخمسينات من القرن الماضي, كانت الإذاعة السورية وليدة لا تزال، لكنّ صوتاً قوياً كان يجلجل من وراء مايكرفونها هو صوت المذيعة الكبيرة عبلة الخوري.

لست أدري إن كانت عبلة سورية أو لبنانية لكنها كانت مقيمة في دمشق هي وأسرتها وكانت لها أخت أكبر منها اسمها أسماء وكنت أزورها في البيت بعد أن توطدت أواصر الصداقة بيني وبين الأسرة منذ عرفت الإذاعة وصرت فيها قاصاً تذاع قصصي فيها عدة مرات في السنة.

كان لعبلة الخوري صوت جميل، وكانت تتقن اللغة العربية إتقاناً قلّ أن تتقنه مذيعات هذه الأيام، وكانت تذيع نشرات الأخبار وبعض الأحاديث السياسية، والجميع معجبون بصوتها يقدرونه ويقدرونها وقد شاءت ذات يوم أن تكتب قصة حياتها فلجأت إلي، على عمري المحدود بالنسبة إليها، وصارت تملي علي الحوادث التي مرت بها، وأنا أكتب القصة التي أسمتها «حياة». ومرت عدة أشهر وأنا أسجل ما تقول، إلى أن اضطرت إلى ترك عملها في الإذاعة، بل تركت الإقامة في دمشق، وسافرت إلى بيروت وأقامت فيها وعملت في الإذاعة اللبنانية ولم أعد أسمع عنها كثيراً، وإن كنت أعرف أنها أقامت في بيروت تربي ابنها الوحيد الذي كان قد ولد في العاصمة اللبنانية، ولم أعد أسمع عن القصة التي أملتها علي وهي قصة حياة ولم أعرف ما إذا كانت قد أصدرتها أم لا.

لم تمرّ الإذاعة بصوت أحلى أو أقوى من صوت عبلة الخوري، وها أنا أشهد بأنها كانت مذيعة عظيمة لم تأت بعدها منافسة بمثل جمال صوتها وقوة لغتها العربية، وأحسب أنها توفت الآن رحمها الله.

كانت عبلة الخوري تجتهد اجتهاداً ملحوظاً في تشكيل الجمل التي تقرأها حتى تكون قراءاتها ناصعة خالصة من شوائب الخطأ، وكانت تقول: المذيعة ليست صوتاً جميلاً فحسب بل يجب أن تكون أستاذة في القراءة الصحيحة «.

هوامش

1 – كان مكتب الطلبة المركزي، ورئيسه عميد من دون مصلحة، يشرف على العمل الحزبي الطالبي كلّه قبل أن تنشأ عمدة التربية والشباب.

2 – تولّى، هو المسيحي، رئاسة الحكومة في دمشق، وكان مميّزاً بكفاءته وبمواقفه الوطنية. حفيدته من ابنه سهيل الأديبة المعروفة كوليت خوري.

3 – تولّى مسؤولية عميد للثقافة وانتخب لعضوية المجلس الأعلى. كان طبيباً. أقام في الربع الأخير من حياته في عمّان، وأصدر ذكرياته في كتاب حمل عنوان «أمل لا يغيب».

4 – أشقاء الأمين سامي وشقيقاته، ومعظمهم رفقاء الأديب عارف، نجلاء، أليس، أسمى، عبلة، عادل، المحامي غالب.

5 – اقترنت من مدير المدرسة الرسمية في الكفير، يوسف كحيل وأنجبت منه الرفيقين رياض وعماد، جهاد، نبيلة وعارف.

6 – كان محافظاً في القنيطرة، وفي أكثر من مكان في الجمهورية الشامية.

7 – منح رتبة الأمانة. مراسل جريدة «النهار» في منطقة حاصبيا.

رئيس لجنة تاريخ الحزب

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى