عرسال تؤسّس للبنان جديد!!
د. وفيق إبراهيم
تشهد الجبال الشاهقة في عرسال أنّ كوكبة من المقاتلين حرّروها من وباء قاتل كان هدفه تدمير لبنان السياسي «صناعة 1943»، لمصلحة إعادة إنتاج لبنان الملحق بالقرون الوسطى «ماركة 1300 مملوكي».
فهل يمكن لهذا التحرير أن يدفع باتجاه بناء سياسي داخلي يكون سوراً يمنع عودة التيارات الإرهابية إلى التسلل؟ ويسمح ببناء لبنان جديد متفاعل مع محيطه العربي والإقليمي والدولي!
مشكلة لبنان أن لا مهزوم سياسياً فيه، بسبب النظام الطائفي المستعدّ دائماً لتغطية الخاسر ضمن حلقته المذهبية التي توفّر له مخارج و «برأس مرفوع»، فيعود إلى سيرته الأولى عند توافر ظروف تتيح له العودة إلى ما كان عليه قبل التحرير. وهناك الإقليم المضطرب والمتقاتل والمنقسم بحدّة… هذا بدوره يحمي من انتمى إليه من المهزومين فلا يعود خاسراً.
فكيف نحمي إذن انتصار عرسال؟
لا بدّ في المنطلق من تحديد هويّة المشاركين في القتال في جرود عرسال ورأس بعلبك والقاع.
على المستوى الطائفي، اشترك مسيحيون ومسلمون في أعمال القتال تحت رايات الجيش اللبناني وحزب الله والجيش السوري ولبنانيين مدنيين وأجانب، انتموا إلى جهات إرهابية في «النصرة» و«داعش»، وهذا موثّق لدى الإعلام وأجهزة الاستخبارات.
لجهة الانتماءات المذهبية للمقاتلين من الطرفين، كان هناك مسلمون من السنّة والشيعة والدروز ومسيحيون من الموارنة والكاثوليك والأرثوذكس، إلى جانب الآلاف من أنصار القراءة الوهابية للإسلام، التي أُعيد إنتاجها على أساس مفهوم قاعدة بن لادن والظواهري.
لقد انضوت هذه الأعداد من المقاتلين ضمن مؤسّستَين دستوريّتين شرعيّتين هما الجيش اللبناني والجيش السوري ومؤسسة جهادية هي حزب الله، تتمتّع بدورها بتأييد شعبي ورسميّ. وهناك «داعش» و «النصرة» عصابتان إرهابيّتان يحاربهما العالم بأسره، وتجسّدان وباءً تكفيرياً لم يعد له مثيل منذ القرون الوسطى.
على مستوى الجنسيات، جمعت عرسال إلى جانب اللبناني والسوري، فلسطينيين وشيشان وأوروبيين وإرهابيين من المغرب العربي ومصر والخليج، كانوا يقاتلون مع الإرهاب قادةً ومقاتلين.
كان هذا التشريح «المبسّط» ضرورياً لتأكيد عدم وجود بُعد مذهبيّ أو طائفيّ لمعارك الجرود. فالجيش اللبناني مؤسسة أمنية لدولة غير دينية تعتمد التوازن المذهبي والطائفي في العلاقات السياسية والاجتماعية، لذلك فالغلبة ممنوعة تحت ضغط التهديد بحروب داخلية. أمّا الجيش السوري، فمؤسسة عسكريّة تمثّل دولة شبه مدنيّة تتعامل بعدل مع كلّ مكوّناتها الدينية مع جنوح رسمي فيها إلى «المدنيّة».
حزب الله بدوره لا يحمل مشروعاً لنشر المذهب الشيعي، لأنّه يعرف أنّ عصر الفتوحات قد انقضى إلى غير رجعة، ولأنّه يقاتل دفاعاً عن لبنان في وجه العدو «الإسرائيلي»، فإنّ قتال القوى الإرهابية الساعية إلى تفتيت المنطقة وتدميرها هو واجب بالنسبة إليه، يرتبط بدوره بقتال «إسرائيل». فـ «إسرائيل» والإرهاب بالنسبة إليه هما جزء من النفوذ الأميركي في «الشرق الأوسط».
لمزيد من التوضيح، فإنّ حزب الله يتحالف مع إيران على قاعدة الجهاد في وجه «إسرائيل» والسياسة الأميركية والدول العربية الموالية لهما. كما يتحالف مع بعض المنظمات الفلسطينية وهي من المذهب السني والقوى القومية في مصر وسورية ولبنان، وله تحالفاته بين القوميات والأديان كلّها. أمّا في الجهة التكفيرية المقابلة، فهناك الوهابي القاعدي فقط، وعشرات الآلاف من الباكستانيين والأفغان، ومن آسيا الوسطى وتركيا ومسلمي أوروبا والخليج العربي والمغرب ومصر ولبنان وفلسطين والأردن.
ضمّ الإرهاب تشكيلة «كونيّة» لا تؤمن بالحدود السياسية، وتضاعف خطره مع تحالفه مع «الإخوان المسلمين» الذين يروّجون بدورهم لأمميّة إسلامية في إطار خلافة غير وراثية بزعامة تركيا. فشكّل هذا الأمر مجالاً للاستثمار لدى الطامحين إلى زعامة المنطقة تركيا والسعودية ، والرامين إلى تدميرها إسرائيل والراغبين بتجزئتها لإعادة إمساكها لقرون جديدة أميركا .
هذا ما احتوت عليه «مصغّراً» جرود عرسال، فقد ابتدأ الإرهاب فيها صغيراً مقتصراً على بضع مئات من المسلحين من داخل البلدة وخارجها، متوصّلاً بواسطة التغطية الرسمية من جهات لبنانية تابعة للنفوذ السعودي والأميركي وجهات دينية رسمية مؤيدة للإرهاب الوهابي، إلى تأسيس إمارة على نحو 700 كيلو متر مربع بين البلدة وجرودها وجرود بلدات لبنانية عدّة مجاورة، مشكّلاً ما يشبه إمارة استبدادية تقتل وتخطف وتجبي وتسبي، أمام جيش لبناني منعته سلطته السياسية من ضربها، ومقابل مقاومة كانت مهدّدة بدورها بتأجيج فتنة سنّية شيعية في حال مهاجمتها للإرهاب.
إنّ هذه المعطيات شديدة التوثيق بالصوت والصورة، والكشف التدريجي عنها ضروري لامتصاص التأجيج المذهبي الذي تستعمله أحزاب القوّات والمستقبل والإعلام الموالي للمشروع الغربي. أمّا الإعلام الوطني، فإنّ عليه التركيز على سؤال واحد، هو التالي: إذا كنتم لا تريدون من حزب الله والجيش السوري المشاركة في تحرير أراضٍ لبنانية وسوريّة، فلماذا لم تحرّروها أنتم منذ ثلاث سنوات؟ ألا تمسكون من 2005 وحتى اليوم بالحكومة اللبنانية، أيّ مؤسسة إنتاج القرار السياسي لأنّكم كنتم دائماً تملكون العدد الأكبر من الوزراء! حتى أنّكم أمسكتم منذ 2008 برئاسة الجمهورية عبر ميشال سليمان، فلماذا لم تبادروا إلى تحرير الجرود الشرقية بدلاً من ذهاب قياداتكم إلى عرسال وجرودها لمقابلة مسؤولي الإرهاب، ناقلين إليهم الغذاء والأموال السعودية وكثيراً من التحريض الطائفي والمذهبي!!
إنّ ما منعكم من مجابهة الإرهاب وأوصلكم إلى تأييده هم الأميركيون والسعوديّون والأتراك، بالإضافة إلى أنّكم كنتم تراهنون على انتصاره، فتتسلّمون الحكم في لبنان بمفردكم. أمّا وقد انتصر حلف المقاومة، فلن يفعل المنتصرون كما فعلتم، ولن يستولوا على المؤسسات السياسية كما خطّطتم، فهم يريدون لبنان لأبنائه كلهم من الطوائف والمذاهب، وهذا ما يحمي النصر ويجعله دائماً.
والاستقرار هو وليد النصر، والمشروع السياسي العادل. لجهة الدور الإقليمي لحزب الله، فلم يعد انطلاقاً من لبنان، بل أصبح دوراً موجوداً في كلّ بلد وإقليم، لأنّ المقاومة مشروع مناهض للنفوذ الأميركي والمشروع الصهيوني. وهما خطران دائمان يستعمران فلسطين وقسماً من سورية والعراق، وينشران قواعدهما على مستوى العالم العربي والإسلامي.
المطلوب اليوم، رحيل المتورّطين من الأحزاب المتواطئة، فلم يعد الإرهاب بحاجة إلى حفاضات وسلاح وغذاء، ومعهم شيوخ الفتنة في الشمال الذين يحتلون رئاسة مؤسسات دينية.
وعن احتمالات تغيير النظام السياسي، فهذه مسألة لها علاقة بالتطوّر اللبناني الداخلي الذي يقرّر منفرداً ماذا يريد في مراحل لاحقة أقلّ توتراً وطائفية. وللتأكيد، فإنّ حزب الله لا يطمع بمواقع دستورية يسرقها من طوائف أخرى، مفرّقاً بين استعمال الطائفية لأهداف الهيمنة السياسية والاقتصادية وبين الدين وسيلة العبادة والاختلاف، ومؤكّداً أنّ دوره منحصر في مقاومة «إسرائيل» والنفوذ الأميركي والإرهاب حتى إشعار آخر.