العسكريون الشهداء ضحايا «بعض السياسة» ومتفرّعاتها
د. وفيق إبراهيم
الفرع الحكومي في حزب المستقبل والرئاسة السابقة للجمهورية ومعظم القيادات العسكرية لتلك المرحلة، وهيئات دينية ومعظم قوى 14 آذار، متّهمون على نطاق شعبي عابر للطوائف بالتسبّب عمداً في استشهاد عسكريين اختطفتهم قبل ثلاث سنوات منّظمتا «داعش» و«النصرة» الإرهابيّتان وقتلتهم ذبحاً ورمت بجثثهم في العراء.
يشمل الاتّهام أيضاً، بعضُ المتورّطين من أهالي بلدة عرسال المنتمين لتلك التنظيمات التكفيرية وأحزاب بيروت. فهل هذه الاتهامات التقليدية تندرج في إطار الصراع الداخلي بين 8 آذار و14 آذار، أم أنّها صحيحة تعكس صراعات إقليمية ودولية بين قوى معادية للإرهاب وقوى تستثمر فيه وتشغّله؟
إنّ العودة إلى الدستور اللبناني تكشف فوراً أنّ المؤسسة العسكرية تتلقّى الأوامر من السلطة التنفيذية بجناحيها رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء، أيّ لا يحقّ لها بناء سياسات عسكرية مستقلة عن الدولة، إلا في إطار ابتكار أساليب تكتيكية ميدانية تؤدّي إلى تنفيذ القرار السياسي، لكنّ الوضع في لبنان قد يختلف نسبياً بسب «ضعف الدولة الطائفية». فقد يجنح قائد عسكريّ لتأييد جهة سياسية على حساب أخرى نتيجة لوعود تلقّاها «بموقع رئاسي ما» بعد تقاعده من الجيش، فكلّ «ضابط ماروني» يشعر أنّه مشروع رئيس للجمهورية إذا توفّرت له الظروف السياسية الملائمة.
يتبيّن إذن أنّ الحكومة هي صاحبة «الحلّ والربط» في القرارات الكبرى، ولا يخرج أحد عن أوامرها إلا إذا أرادت قواها الأساسيّة «التعامي» وترك الأمور تجري لمصلحة قوى إقليمية أو دولية ترتبط بها، فيجري اختراع «سيناريو عسكري»، يزعم أنّ هناك صعوبات تقنية في تحرير العسكريين المختطفين، وقد يحتاج هذا الأمر إلى استشهاد «مئات العسكريين»… وهذا ما لا يحتمله الجيش اللبناني، كما قال قائد الجيش العماد جان قهوجي في ذلك الحين.
لذلك جرى تنفيذ «سيناريو قانوني» في مرحلة اختطاف العسكريين في 2014 في بلدة عرسال، اختلط فيه «الديني» مع «السياسي» مع «العسكري» في لعبة أدّت إلى تصفية بضعة عشر جندياً لبنانياً.
فماذا جرى؟ اشتباكات صغيرة بين الجيش ومجموعات إرهابية في منطقة عرسال البقاعية، أعقبها هجوم كبير على مواقع الجيش داخل البلدة.. قسم صغير من المواقع استبسل في القتال، وقسم آخر اعتكف في مواقعه بسبب أوامر من قيادته العليا، طلبت منه ألا يتحرّك.. وجرى اختطاف العسكريين الذين وضعوا «أمانة» عند أبو طاقية الحجيري، حسب تصريحاته.
لم يُبدِ الجيش أيّة نية لتحرير المختطفين، منتظراً مساعي «هيئة العلماء المسلمين» الشمالية الأصولية بدورها في هذا الشأن، فاتّضح أنّ هذه المحاولات ليست إلا ستاراً تمويهياً لنقل العسكريين المختطفين إلى جرود بلدة عرسال على مقربة من الحدود السوريّة، وهنا لا بدّ من التذكير بمداخلات رئيس الحكومة تمام سلام، الذي تحادث مع قيادات عسكرية ميدانية في عرسال، طالباً منها أن تنسحب من تلال وهضاب «سمّاها بالأسماء»، ومصرّاً عليها أن لا تهاجم الخاطفين وأنصارهم في عرسال لضرورات التفاوض.
هناك نقطتان جوهريّتان من هذه المجريات الأولى تؤكّد أنّ رئيس الحكومة لا يحقّ له إصدار قرارات إلا بعد العودة إلى مجلس الوزراء، ولا يحقّ له التدخّل في تكتيكات عسكرية محدّدة، وإلا توجّب تعيينه في قيادة الجيش. فيما تجزم النقطة الثانية، أنّ الجيش يدافع فوراً عن نفسه عند تعرّضه لهجوم، ولا ينتظر إذناً بذلك.
فكيف الحال مع اختطاف عسكريين على مرأى من مواقع عسكرية أخرى لم تحرّك ساكناً.. وهذا هو العجب العجاب!!!
وتنبثق أسئلة أخرى تتمحور حول الصمت السياسي الحكومي والعسكري عن اختطاف العسكريين لثلاث سنوات، كانوا فيها مأسورين على أراضٍ لبنانية صِرفة، زعم وزير الداخلية أنّها «أراضٍ ملتبسة» لم يتمّ تحديدها بتفاهمات سوريّة لبنانية.. الأمر الذي أدّى إلى استنكار أهالي عرسال لتصريحه، مصرّين على «عرساليّة المنطقة ولبنانيّتها».
تؤكّد هذه النقاط المذكورة على أنّ هناك ضغطاً سياسياً على الجيش الذي استجاب منصاعاً لرغبات قائده «المسيّسة»، فيما تجيز القوانين له الدفاع عن نفسه ومنع اختطاف العسكريين من دون العودة إلى رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء.
وتفكيك هذا الضغط السياسي، ينطلق من رئيس الحكومة سلام، الذي أدّى دوراً عرقل «ردّة فعل عسكرية موضعية»، كان بإمكانها تحرير المختطفين وإنقاذ عرسال، ولأنّ الرئيس سلام ووزراءه محسوبون على حزب المستقبل «السعودي»، فلا بدّ أنّه كان ينفّذ طلباً «سعودياً» أميركياً مشتركاً يدخل في خانة تشغيل الإرهاب في وجه الدولة السوريّة.
كما تصبّ زيارات قوى 14 آذار للقوى الإرهابية في عرسال وتقديم هدايا غذائية ومختلفة لها، مع دعمها السياسي الكبير الذي كان يؤكد ديمقراطية منظّمات تبيّن أنّها إرهابية وتكفيرية.
أمّا هيئة العلماء المسلمين، التي ادّعت أنّها تقوم بوساطة لتحرير العسكريين، وتبيّن أنّها موّهت لتسهيل عمليات الخطف.. فمعروفة بتاريخها المرتبط بالقاعدة و«داعش» و«النصرة» إيديولوجياً، وحزب المستقبل الحريري سياسياً.
لذلك، تكشف هذه المعطيات أنّ كلّ السياقات العسكرية والسياسية والإرهابيّة مع تورّط قلّة من أهالي عرسال، والأدوار السعودية الأميركية الأساسية، ليست بذات قيمة لو توفّر للبنان مجلس وزراء يعتبر أنّ أرواح عسكريّيه أغلى من المداخلات الخارجية، وأعلى من الصراع الداخلي ذي الطبيعة المذهبية والطائفية والاقتصادية.
وبما أنّ الدستور يولي مسؤولية القرار السياسي للحكومة، فإنّ كلّ ما جرى من تورّط للعلماء المسلمين وبعض أهالي عرسال والأدوار الإقليمية والدولية وتغطيات قوى 14 آذار وتلكّؤ قيادة الجيش، إنّما يتحمّلها الفريق الوزاري المحسوب على الحريريّة السياسية بالانتماء المباشر أو بالتحالف، وهذا ليس تجنّياً، لأنّ هؤلاء عطّلوا طيلة السنوات الثلاث إمكانية إصدار قرار بمهاجمة الإرهاب في عرسال، وكانوا يستقبلون في منازلهم في العاصمة شخصيات عرسالية تبيّن أنّها من «النصرة» و«داعش».
فأين كان أبطال «إعلان بعبدا» وفتى السيادة الكتائبيّة والنمور وفارس الهجوم على المقاومة، عندما ذبح حلفاؤهم الإرهابيّون جنودنا؟
فهل تتوصّل لجان التحقيق في «مأساة عرسال» إلى هذه النتائج؟ نخشى أن يكون هذا التحقيق وسيلة لمكاسب سياسية ينالها فريق على حساب الفريق الآخر، وتتبخّر أرواح الشهداء تحت مطارق التسويات على الطريقة اللبنانية التقليدية.