من أوائل رفقائنا في صافيتا وأوّل منفذ عام لها… الدكتور صادق الطيار
الأمين لبيب ناصيف
كثيراً ما أورد الأمينان جبران جريج وعبد الله قبرصي اسمه، حين الحديث عن الحضور القومي الاجتماعي في صافيتا. إلا أنّني لم أقرأ عن سيرته إلا عندما راجعت أعداداً لديّ من مجلّة «البناء ـ صباح الخير»، فقرأت في العددين 827 تاريخ 14/03/1992 و 836 تاريخ 16/05/1992 ما يفيد سيرته، التي يصحّ أن تُنشر تعريفاً عن أحد أوائل رفقائنا في صافيتا، ومنفّذها.
وفاته
قالت «البناء ـ صباح الخير» في عددها رقم 827 تاريخ 14/03/1992:
«فجعت مدينة صافيتا ومنطقتها صباح يوم الاربعاء 04/03/1992 بخبر وفاة ابنها البار الرفيق الدكتور صادق طيار عن عمر ناهز الخامسة والثمانين، قضاها في صراع مرير ومستمر مع جميع اشكال التحدي والاخطار التي واجهتها امتنا طيلة القرن الحالي.
ولد الرفيق صادق طيار في صافيتا عام 1907. عرفته مدارس صافيتا وحمص وطرابلس مصارعاً منذ طفولته لكل اشكال الجهل وكل مفرزات الاستعمارين التركي والفرنسي اللذين عايشهما.
انتمى إلى الحزب السوري القومي الاجتماعي عام 1934 في فترة العمل السري، ولهذا فهو من رواد ومؤسسي العمل الحزبي في منطقة صافيتا، وقد شغل مسؤولية منفذ عام صافيتا عدة مرات بين عامي 1934 ـ 1954. عرفه الجميع مناضلاً صلباً بالكلمة والفعل، وما زال المواطنون يذكرون اعتراضه على رأس القوميين الاجتماعيين، موكب المندوب السامي الفرنسي في شارع صافيتا الرئيسي وإصراره على تسجيل موقف قومي جريء رغم جميع المداخلات والأوامر الصادرة من السلطات المحلية للتخلّي عن هذا الموقف.
مارس الدكتور صادق مهنة الطب بانسانية عزّ نظيرها إذ كان نظيف القلب واليدين.
وعند زيارة الأمينة الاولى لمنطقة صافيتا سنة 1951 نزلت في منزل الرفيق صادق الذي استقبلها مع بنات الزعيم بكل حفاوة وتكريم تليق بهن ورافقها في كل جولاتها في المنطقة.
بقي الرفيق الفقيد حتى آخر لحظة من حياته متفاعلاً مع كل آلام امته مجسداً بالكلمة والقدوة مضأمين قسمه القومي الاحتماعي، وناسياً جراح نفسه منهمكاً بتضميد جراح أمّته.
شيّعت مدينة صافيتا ومنطقتها الفقيد بموكب مهيب تقدمه إكليل بِاسم رئيس الحزب السوري القومي الاجتماعي. وقد عبّر المشيّعون عن حبهم ووفائهم للفقيد وتقديرهم للقدوة التي جسدها طيلة حياته».
ذكرى الأربعين لوفاته
تحت عنوان «وفود من مختلف المناطق تحتشد في صافيتا»، غطّت «البناء ـ صباح الخير» في عددها رقم 836 تاريخ 16/05/1992 ذكرى الأربعين لرحيل الرفيق الدكتور صادق الطيار. قالت:
«تتالى وصول وفود القوميين الاجتماعيين من معظم المناطق الشامية إلى صافيتا للمشاركة في الحفل التأبيني الكبير الذي أقيم بمناسبة مرور أربعين يوماً على وفاة الرفيق الدكتور صادق الطيار.
هذا وقد احتشد المشاركون من اهل الفقيد وأقربائه وأصدقائه ورفقائه في موكب مهيب اخترق شارع صافيتا الرئيسي وصولاً إلى كنيسة مار مخائيل حيث اقيمت صلاة الجناز التي ترأسها سيادة المطران بولس بندلي راعي ابرشية عكار وتوابعها. وقد مثّل الحزب السوري القومي الاجتماعي رئيس المحكمة العليا الأمين الياس جرجي قنيزح الذي ارتجل كلمة تعرض فيها للحقبة الطويلة التي عاصر فيها الرفيق الراحل مشيداً بمواقفه النضالية البارزة.
ومن المشاركين بالحضور نائب صافيتا في مجلس الشعب الشامي الأستاذ نزيه بشور، وشارك من نقابة أطباء الأسنان رئيس فرع النقابة في طرطوس الدكتور منذر اسكندر وعدد من أطباء الأسنان زملاء الفقيد، إضافة إلى النائب السابق الرفيق بديع اسماعيل 1 .
وقد ألقى الدكتور اسكندر كلمة النقابة ورد فيها: لقد أفنى قلب الدكتور صادق كثيراً من نبضاته في خدمة انسانية خففت الالم والمعاناة عن اخوانه وابنائه في الانسانية… كان المغفور له من اوائل الذين جاؤوا بالمعرفة وطبقوها قولاً وعملاً.
كما القى الدكتور أمين ابو عبيد كلمة زملاء الفقيد اشاد بها بالخصال الحميدة التي تحلى بها الراحل.
ومن ثم القى كلاً من الأمين عبدالله نصر الله 2 ، قصيدة، والرفيق يونس ديب كلمة، اشادا فيهما بمناقبية وصلابة ومواقف الفقيد القومية.
بعد ذلك ارتجل الاستاذ عيسى حبيب كلمة اشاد بها بالدور الانساني الكبير الذي مارسه الدكتور صادق.
وألقى الاستاذ الشاعر حنا طيار قصيدة ورد فيها:
شرف الجهاد جماله بصموده
والراحل الدكتور قد ارضاه
أعطى المبادئ حقّها بوفائه
فنضاله هيهات أن ننساه
وبعد كلمة الأمين الياس جرجي وجّه السيد معن طيار نجل الفقيد كلمة شكر بها المشاركين جميعاً.
وكان الرفيق محمد عبد الرحمن عريف الحفل فقدم الخطباء بالكلمات والقصائد الجميلة.
كلمة الحزب
من كلمة الحزب التي ألقاها رئيس المحكمة العليا الأمين الياس جرجي قنيزح:
أيها المناضل الصادق.
تعودنا في كل مرة نلتقي ان نتبادل تحية الحياة تحيا سورية
نم أيها الصادق قرير العين مرتاح الضمير ناصع الجبين. لقد وفيت واجباتك نحو القضية التي تساوي كل وجودنا، وغدت ذكريات مواقفك الشجاعة وأفعالك الفذة قدوة رفقائك منذ ثماني وخمسين سنة ونيف يتناقلها الخلف عن السلف بإعجاب.
كم توزّعت الآراء وتضاربت مدى أجيال تلي أجيالاً في تعريف معاني الحياة ومراميها الحقيقية، منهم من وصف الحياة بأنها مجرد نزوة عابرة وآلهية لا تخلو من الطرافة. هي رحلة تائهة بين الولادة والموت يجتازها الإنسان من دون جدوى وهو لا يدري اين المصير الذي تؤول إليه، ومنهم من رآها تلاحم احلام غير مستقرة ولا ذي مغزى حقيقي يوازي ذرة من الالام التي يتحملها الانسان فيها، او مثقالاً من المآسي الموجعة التي يعانيها من اجلها، ومنهم من اعتبرها باطلة الاباطيل تغرر بالانسان وتستدرجه لأن يعوّل عليها ويركن إليها حيناً لكنها لا تلبث ان تغدر به وتلقيه نسياً منسياً لا دور له ولا شأن. تدوسه قافلة الاجيال المتعاقبة، والحياة ساخرة من تعلقه بها وهازئة من آماله السرابية البلهاء او شامتة من انكبابه الجدي على ما يتصوره فيها من مغانم دائمة بحوزته تلتهم اطماعه المجنونة التي تؤدي به ابداً إلى الافلاس والتلاشي المحتم. الحياة بنظر البعض تستهلك الانسان بالاوهام ثم ترميه رفاة هامدة لا قيمة لها ولا معنى، مصيرها الابدي في حفرة النفايات والفضلات المنبوذة التافهة.
هؤلاء الناقمين على الحياة النائحين على سرعة زوالها والمستخفين بقيمها ومثلها لم ينظروا إليها إلا من خلال اعمار الافراد. صحيح ان الافراد تأتي وتذهب، اما المجتمع فباقٍ لا يزول. من يعمل من الافراد لفرديته ومنافعه الخصوصية لا شك انه زائل يمضي بين الاحياء بلا اثر ولا تأثير ايجابي، اما من يعمل للانسان المجتمع واستمرار بقائه وديمومته المتصاعدة فهو ابداً باقي بذكرياته، حياً فاعلاً مدى توالي الاجيال والقرون بقدر مآثر ذكرياته الاجتماعية البناءة. يقتدي به الاحياء دائماً في نشأتهم وتكوّن اختباراتهم المثمرة خلفاً عن سلف. كم من الاحياء بأجسادهم هم اموات بأدوارهم الاجتماعية وشأنهم في تقدم المجتمع وارتقائه، وكم ممن تواروا بأجسادهم عن العيان هم الاحياء الفعليون، هم ابناء الحياة الحقيقيون تستمد من تراثهم الجليل النهضة روحها وعزيمتها الخلاقة، لأن من ينذر نفسه لأمته هو الحي الباقي فيها لا يطاله الزوال والفناء ولا تتخطاه الأزمنة.
سعاده وحده اعطى للحياة معناها الجامع المانع لأنه عرف كيف يشاهدها من خلال جوهرها الاجتماعي ومضمونها الانساني الأصيل، هو القائل إن الحياة كلها وقفة عزّ فقط. متى تفهّم الانسان مغزاها الثابت وأدرك فحوى ابعادها الخالدة. الحياة اذن وقفة عز، هي حركة نهوض وتحرر، لا غفلة وغفوة، يستسلم فيها الانسان إلى عالم الاحلام والاوهام كأنه ظل وجود لا وجود له في الواقع الراهن، وبالتالي لا حضور له بين الاحياء الاحياء.
نحن حقاً ابناء الحياة، ايها الرفيق الصادق بالفعل. نحن من يحب الحياة لأننا نحب الحرية ومن يحب الموت ايضاً متى كان الموت طريقاً إلى الحياة، حياة الحرية والسيادة لسوريانا، وما عدا هذا المفهوم الرفيع للحياة والموت من اجل الحرية، فالحياة للافراد مذلة تنجلي عن ذبول الموت ويباس الشوك المتناثر هباء ليس إلا. هي مسرحية، هي مأساة تبدأ برفع الستار وتنتهي بإسدال الستار وما يتخللها من مشاهد هي طلاسم وأحاجي تتكرر وتتكرر دون معنى معين ولا غرض واضح.
نحن سمونا في الحياة عن طلب الحاجات الدنيا والاطماع ومحونا اعتبار الموت انطفاء شعلة الحياة وتلاشي الرغبات والاهواء او توقف خفقان النمو المادي او بالاصح التراكم الكمي. نحن نقدم على الموت واستشهاداً من اجل عز الحياة وانتصارها على كل زوال وكل إذلال وكل اغلال تكبل انطلاقة الحرية إلى حياة أعزّ وأجمل.
إنّنا نعمل لإقامة الحياة وقتل العيش. لأن العيش جشع وادخار وخوف من المجهول، من الفقر والمرض والبؤس. يقوم العيش على تنازع الافراد لقمة العيش وتخاطف علف الغذاء للجسد الفاني. على التسابق الشرس لاحتكار حق الغير بأنانية محقرة لانسانية الانسان المعطاء الذي يحافظ على ضرورات العيش تحريراً لمقاصد الحياة العليا ومثلها السامية. الانسان يستخدم العيش لإقامة الحياة التي تعني معنى وجوده سيداً حراً، والعجماوات بالفطرة تسعى دون معرفة إلى اشباع متطلبات العيش من اجل العيش فقط تسوقها غريزة البقاء دون وعي ولا هدف لأنها لا تعقل وليس لها إرادة لتختار.
بينما الحياة التي نقيمها نحن ونحققها بالاعمال والافعال، هي حياة التعامل والتعاون لخلود المجتمع في مجالات التقدم والارتقاء، هي تحقيق الافضل اللامتناهي بتفاؤل فعّال لا يتلكأ ولا يقهر، تفاؤل يعرف ما يريد ويعمل بفرح لتحقيق ما يريد من اجل مستقبل دائم الازدهار لا ينتابه صدأ التشاؤم البائس الشقي الذي لا ينثني عن مطاردة حيوية الحياة الخلابة الاشعاع التي تنير عتمة المنعطفات ووعورة المشقات وغدر مفاجأتها الضارية. التشاؤم موت الحياة لانه يطوقها بالمخاوف والاباطيل التي تحجب عن المتشائم خصوبة الحياة اذ يرمي بها إلى الاهتراء والعفن والاضمحلال. الحياة محبة وعطاء واقدام دؤوب لا يعرف الاحجام.
نحن نصبر على المكاره صامدين نتربص لها بروية وشجاعة ونترصدها بدقة وتخطيط. الصبر لنا تحفّز مستمر للوثوب. ووثوب هادف في الوقت المناسب إلى المرمى المقصود دون إبطال ولا وجل. لا نبغي في الصبر التواري والسلامة الشخصية متخلين عن مثلنا ومطالبنا ضناً براحتنا وارواحنا، مهما كان الثمن البديل. الصبر إعداد سوي لساعة النزال وساحة الانتصار. إعداد بحكمة واحكام، نلاقي به اعظم انتصار لأعظم صبر في التاريخ، لأننا مؤهلون لتغيير وجه التاريخ وتوجيه مجرى الاحداث بالصبر والتريث نرسّخ قدوة رجالاتنا الافذاذ وبالمواقف البطولية. نفي بالعهد لهم الذي تعاقدنا وإياهم على تحقيقه الدؤوب مهما طالت امامنا الطريق وتضافرت في وجهنا المصاعب والمصائب العاتية، اننا إلى الامام سائرون وثابتون في تلبية الواجب بنظامية المدرك لعظم قضيته وعظم مسؤوليته عن حياة الحرية والكرامة التي ننشد، ومن اجلها نحيا حتى الشهادة الحقيقية الخالدة المخلدة».
هوامش
1 الأمين بديع اسماعيل: لمراجعة النبذة المعمّمة عنه الدخول إلى قسم «من تاريخنا» على موقع شبكة المعلومات السورية القومية الاجتماعية www.ssnp.info
2 الأمين عبد الله نصر الله: من رموز العمل الحزبي في منطقة درعا ـ إزرع. تولّى مسؤولية منفذ عام أكثر من مرّة.