لماذا استهداف لبنان؟
د. وفيق إبراهيم
التصويب على عهد الرئيس ميشال عون يُخفي تقاطع مصالح حادّاً بين جهات عربية تريد رأس حزب الله في منطلقه اللبناني، وفئات داخلية تريد السيطرة على الدولة. ويبدو أنّ ما جرى مع رئيس الحكومة سعد الحريري في السعودية هو جزء بنيويّ من هذا المشروع لم يكن على علم بمختلف جوانبه.
هُويّات هذه الجهات لم تعُد مجهولة، فهناك السعودية وتقاطعاتها في لبنان، أمّا الاحتياط في حالة الفشل فهو دور عسكري «إسرائيلي»، اعتقد بعض المغرورين بإمكان اللجوء إليه من دون إذن أميركي، لذلك فشلت الخطة واستعيض عنها بمجموعة فاشلة التقت في جامعة دول عربية لتُنزَل السعودية عن الأشجار ذات الأشواك الدامية، فحمتها بشكل مضحك من إخراج مهندس فاشل هو أبو الغيط.
لمزيد من الموضوعية، يجب البحث عن أسباب هذه الخطة وتوقيتها… ونتائجها.
لقد اعتقدت السعودية أنّ تسوية بين أنصارها في لبنان والتيار الوطني الحرّ تقضي بدعم رئيسه العماد ميشال عون لرئاسة الجمهورية، كفيلة بضرب حلف عون مع حزب الله. وكانت التسوية بين الطرفَين دقيقة، بحيث شملت طريقة إدارة الدولة وتوزيع المواقع الأساسية مع التنسيق المسبق لحركة توزيع المال العام، بالإضافة إلى احتمال الالتقاء في الانتخابات النيابية المقبلة في الحدّ الممكن من التعاون في المناطق.
أمّا سياسياً، فشملت هذه التسوية ضرورة الابتعاد عن المحاور في صراعات الإقليم، الذي فهمته السعودية على أنه يستهدف دور حزب الله في جنوب لبنان وسورية والعراق واليمن.
ومقابل التطبيق الدقيق للجزء الخدمي من التسوية بين فريقَيها، على مستوى التحاصصات المالية والإدارية والتوظيف، طبّق الفريقان الحريري والعوني الجزء السياسي منها، كما فهمه. فأنصار السعودية واصلوا إطلاق النار السياسية على حزب الله وإيران وسورية، رافضين بشكل صبياني مصافحة السفير السوري في المناسبات الرسمية اللبنانية. أمّا الطرف العوني، فالتزم بحياديّة في التعاطي العادل بين قوى الإقليم، مفضّلاً البدء بزيارة السعودية كفاتحة لحركة العهد السياسية والدبلوماسية، ولم يزر إيران حتى اليوم.
لكنّ الوزير جبران باسيل الذي شعر بهذا الخلل السياسي التقى بزميله السوري وليد المعلم في الأمم المتحدة، وسط هجوم صاعق عليه من الأطراف الموالية للسعودية في لبنان وبعض السياسيين السعوديين الذين هاجموه، لأنّه كسر السياسة الرسمية اللبنانية التي كانت تتجنّب أيّ تقارب مع السوريين.
اللافت هنا، أنّ أنصار السعودية في لبنان لم يتوقّفوا لحظة عن تأييد التنظيمات الإرهابية في سورية والعراق، ويواصلون حتى اليوم تأييد المجازر السعودية في اليمن. أمّا الرئيس عون، فاكتفى بتأييد سلاح حزب الله في دورَيه المناهضَين للإرهاب و«إسرائيل»، محترماً حلفه التاريخي مع هذا الفريق لمصلحة لبنان أولاً وأخيراً، وليس لفائدة طرف بعينه.
وفيما يلتقي أركان الثامن من آذار بالسفير السعودي ووزراء المملكة أثناء زياراتهم للبنان، يرفض أركان حزب المستقبل مصافحة السفير السوري مواصلين إطلاق هجمات حادّة بشكل يومي، وداعين من جهةٍ أخرى إلى النأي بالنفس عن صراعات الإقليم، فكيف يكون «نأياً بالنفس» تأييد السعودية في دعمها حركات الإرهاب في العالم ومعاداة سورية، وهي التي استقبلت اللبنانيين في محنهم ودعمتهم في حروبها وحدودها مفتوحة لوصل لبنان بالعراق والخليج!
إنّ انعكاس هذه السياسات على الأوضاع الداخلية في لبنان أدّى إلى شعور حلفاء الحريري من القوى المسيحية بالتهميش في الاستفادة من إمكانات الدولة، فجعجع رئيس حزب القوات كان يحلم بالإمساك بالدولة على أساس تحالفه مع تيار عون وحزب المستقبل، على خلفية محاصرة حزب الله. وكذلك الكتائب والشخصيات المسيحية التي كانت موالية لآل الحريري من بطرس حرب وفارس سعيد والعشرات من أمثالهم، اعتبروا أنّ حلف عون الحريري لن يدعهم يعودون إلى المجلس النيابي مرة أخرى.
ولا يمكن نسيان دور قوى دينية مسيحية كانت تعتقد عبر علاقاتها الخارجية أنّ مرحلة الصلح مع «إسرائيل» اقتربت، ما أباح لها التعاون مع فارس سعيد بالدعوة إلى التطبيع مع «إسرائيل».
أمّا لجهة القوى الإسلامية، فكان هناك اعتقاد لدى الوزير أشرف ريفي وفريق عمله المرتبطين بالوزير السعودي السبهان، أنّهم مستفيدون من أي تصعيد سعودي في لبنان يُرتجى منه أن يطرحهم رؤساء حكومات ومسؤولين، لذلك تلقّوا دعماً مالياً من بعض الجهات السعودية واللبنانية لتوسيع انتشارهم في الساحات والمدن.
لجهة الجانب السعودي، فلم يهتمّ بحركة توزيع المغانم الداخلية في لبنان، بل ركّز اهتمامه على المحصّلة السياسية للتسوية بين عون الحريري، ففوجئ أنّ حزب الله أصبح أكثر ارتياحاً في جهاده الإقليمي. ومقابل ما كان يتعرّض له من انتقادات وهجمات من قِبل الرئيس السابق ميشال سليمان، فإنّه يتلقّى مديحاً وتأييداً من فريق الرئيس ميشال عون، الطرف الأساسي في التسوية مع الحريري، فجنّ جنون السعوديين واعتبروا أنّ التسوية مع الرئيس عون لم تعكس المصالح السياسية للسعودية بقدر تلبيتها لاهتمامات حريرية في الدولة. فحاولوا تأليب المتضرّرين في الداخل، الذين لم يستفيدوا من مغانم التسوية، ناجحين في إنشاء حلف بين قوى لبنانية بإمكانها السيطرة على الدولة وضرب حزب الله في آن معاً.
وشكّل الوزير وليد جنبلاط نقطة ضعف كبرى في مشروعهم، لأنّه رفض التمادي معهم وهو الملمّ بقراءة التحوّلات الدولية والإقليمية.
ألَم يقل له أصدقاؤه الروس إنّ الرئيس الأسد باقٍ في موقعه! ما يعني نجاة الدولة السورية من الإرهاب السعودي الدولي؟! فكيف يصدِّق دولة سعودية مهزومة في معظم الإقليم، ويكذِّب من نفّذ مئة ألف غارة جويّة على الإرهاب في سورية، والعائد إلى «الشرق الأوسط» على صدى ما أحدثته هذه الغارات من خروق في المشروع السعودي الأميركي «الإسرائيلي»؟
هذا ما جعل السعودية تستدعي الحريري وتأسره و«تستقيله»، على أمل إحداث فتنة داخلية يليها هجوم «إسرائيلي» على لبنان.
وهكذا انكشف مدى إحساس السعوديين بالهزيمة الإقليمية، ما دفعهم إلى البحث عن أيّ نصر يحتمون به، فكان الاجتماع المهزلة في جامعة أبو الغيط، وتلاه اجتماع وزراء دفاع التحالف الإسلامي العسكري الذي لا يقلّ هزليّة، لأنّها لقاءات ذات طابع معنوي تحاول الرياض الاحتماء بها من مقبل الأيام الصعبة التي تستشعر بها قبل وقوعها. فها هي معلّمتها الأميركية تدعو إلى حلّ سياسي في سورية وآخر في اليمن، وكانت تنادي بإسقاط الأسد والحوثيين قبل شهر فقط.
السعودية إلى أين؟
هزائمها في الإقليم تشير إلى أوضاع صعبة في استقرارها الداخلي، وإذا تقاطع هذا التراجع في الدور السياسي إقليمياً وإسلامياً مع الاستمرار في انخفاض أسعار النفط، فإنّ مملكة الرمال ذاهبة في اتجاه انهيار كبير من شأنه إعادة موضعتها داخل العصر على حساب انهيار القرون الوسطى.