ريحان يونان لـ«البناء»: الإعلام علم وفنّ… و«الميادين» تمكّنت من تحقيق التوازن المطلوب
حاورتها ـ عبير حمدان
أن تملك المقدرة على التميّز وأنت في مقتبل العمر، ففي ذلك قوّة وفرادة. إنّما حين تتوكّأ على خلفية ثقافية مقترنة بالوعي، يصبح حضورك فعل وجود، وتحفر بصمتك عميقاً في الذاكرة التي سترافقك حتّى زمنٍ آتٍ.
ريحان يونان، الشابة الإعلامية التي أسقطت جواز السفر وعبرت الحدود كلّها تحت عنوان «مترو»، استحقّت لقب «الإعلاميّة المتميّزة»، فكانت جديرة بالميادين وأثبتت أنّ الخبرة المهنية تُكتسب مع التفاعل الأوّل أمام الكاميرا.
هي التي لامست معظم القضايا المرتبطة بالجيل الشاب المثقل بالهموم والتراكمات الاجتماعية، وقرأت في دفاتر الانتصارات على أرض الجنوب. ومن بيروت ناجَت فلسطين، وتبقى سورية نقطة البداية والنهاية لابنة حلب التي لم تتمكّن الحرب من التغلّب على ارتباطها الوثيق بها، ولو أبعدتها عنها قسراً.
ريحان الجريئة والواثقة، ترى أن المعرفة الحقيقية هي بالإقرار أننا لا نعرف شيئاً، وأنه علينا البحث على الدوام. وحين نسألها عن السبب الذي دفع بإدارة قناة إخبارية متخصّصة كـ«الميادين» لمنحها الثقة من أجل تقديم برنامج خاصّ بها وهي في أولى خطواتها العملية، تجيب: «هذا السؤال عليكم طرحه على المعنيّين في القناة». فندرك حينئذٍ أنّ السؤال يفقد معناه كون هذه الشابة محاوِرة متمكّنة وقادرة على تطويع النقاش بكلّ هدوء.
«البناء» التقت ريحان يونان، وكان هذا الحوار الشيّق في أولى الحلقات من سلسلة «إعلاميّون تميّزوا»، التي ستُنشر منها حلقات مقبلة مع إعلاميين آخرين.
«مترو» البساطة والعمق
نبدأ مع ريحان من «مترو»، البرنامج الاجتماعي الثقافي البسيط والعميق في زمن إعلاميّ يقارب الاستهلاك. ونسأل عن الجرأة في خوض هذه التجربة التي فيها نوع من المغامرة، فتقول: قد تكون مغامرة في مكان ما، ولكنّ السؤال الفعلي هو أين نقدّم البرنامج وعلى أيّ قناة؟ وما هي طبيعة هذه القناة؟ «الميادين» قناة إخبارية متخصّصة، والشريحة التي تتابعنا مختلفة عن الشرائح التي تتابع القنوات الترفيهية. وفي «الميادين» إلى جانب السياسة الإخبارية، هناك مساحة للطرح البسيط والعميق في آنٍ. ولحُسن حظّي كانت هذه المساحة من نصيبي.
وفي ما يتّصل بالجرأة، أجل هناك جرأة في خوض هذه التجربة، وأنا أقول دوماً إنني من الجيل الذي فتح عينيه على ما يسمّى «الربيع العربي» والثوارت والحلم بالتغيير، فوجد نفسه في خضمّ حروب دامية. وفي مكان ما خاض هذه الحروب. هناك جزء كبير من جيلي توجّه نحو الشقّين السياسي والعسكري لنقل في الإطار الإعلامي على سبيل المثال، ولكنني اخترت الجانب الاجتماعي الذي يتناوله برنامجي، لأنّني أرى أنّ هناك مشاكل وقضايا وهموماً كثيرة متّصلة بالشباب في المجتمعات العربية، ويجب الإحاطة بها والإضاءة عليها. ويجب ألا نتناسى مشاكلنا الاجتماعية من جرّاء ما نعيشه من حروب قد تطول.
لكن، هل نحن من اختار خوض هذه الحروب بِاسم التغيير؟ تجيب يونان: لا، لا أظنّ ذلك على الإطلاق، وهذا سؤال صعب جدّاً، وربما لن يتمكّن أحد من الإجابة عليه. أنت وأنا صحافيتان ونقوم بإجراء الكثير من الحوارات. ودوماً هناك أسئلة وأجوبة تحفر في رؤوسنا بقوّة وتبقى عالقة، ومنذ سنة بالضبط كان ضيفي المخرج السوري محمد عبد العزيز الذي كان قد حصد جائزة عن فيلمه «حرائق»، وانطلاقاً من فرضية الفصل بين الحدث الذي نعيشه والعمل الفنّي بفترة زمنية، سألته عن الجرأة في تناول الأزمة السورية سينمائياً وفنياً، ليجيبني: «ريحان، نحن متى عشنا مرحلة السلام، نحن نعيش في منطقة صراع ونزاعات، ولم تنته الحرب يوماً على هذه الأرض، قد نمرّ في فترات من الهدوء ولكن الحرب قائمة». وبالفعل، حين تمعنت في جوابه رأيت أنه محقّ، فنحن نعيش الحروب منذ أيام بابل ونبوخذ نصّر والكنعانيين والأشوريين. من هنا أجد صعوبة في الإجابة على السؤال. نحن شعوب تعرّضنا أكثر من غيرنا وعلى مدى التاريخ للكثير من النزاعات رغم أننا أقدم من غيرنا، حين يتصل الموضوع بالحضارة. المشكلة الحقيقية في تركيبة الكوكب بكامله، ولا يظنّ أيّ أحد أنّ الدول الأوروبية لا يوجد من يتدخل في سياساتها.
نحن أبناء حضارة
وترى يونان أنّ الإرث الحضاري تراكميّ. ومن هنا نسألها: هل نحن غير جديرين بهذا الإرث؟ فتجيب: نحن مؤهّلون لتحقيق التغيير رغم كلّ ما نعيشه من حروب، لأننا أبناء حضارة. صحيح أنّ هناك بلداناً تحاول أن تكون متقدمة بالمال الذي لديها وبالبترول المكتشف، ولكن الحضارة إرث إنساني. والدليل الإنسان السوري الذي ورث الحضارة، ما جعله يقف بثبات في وجه الأزمات. خذي فلسطين مثالاً، هل أصبحت «وطناً قومياً لليهود» وفق وعد بلفور؟ مطلقاً هي فلسطين بأهلها وناسها الذين يتكلّمون العربية في كلّ بقعة من فلسطين المحتلة وغير المحتلة. من هنا أرى أنّ إنساننا حافظ على إرثه الحضاري رغم كلّ الأزمات التي مرّ بها وحتى اليوم لم نزل نسمّي أولادنا «عشتار» و«إنانا» و«سرجون» و«نبوخّذ نصّر»، وهذا الأمر وحده يعدّ محافظة على حضارتنا وإرثنا الثقافي والإنساني. أنا نشأت في بيت على جدرانه لوحات لجلجامش وسرجون، وهكذا سأربّي أولادي لاحقاً. ومن دون الدخول في التفاصيل حول الخلفية التي يتساءل عنها الكثيرون ويبحثون في الأفكار التي نطرحها سواء أنا أو شقيقتي فايا، أختصر وبكل بساطة وأقول: نحن سوريون ومن هذه الأرض، وأنا وشقيقتي انتقلنا إلى هنا وإلى بلاد الشام منذ ثلاث سنوات حين قرّرت هي احتراف الغناء وأنا وقّعت عقدي مع «الميادين»، وهنا نحن في تصالح تام مع الذات وننعم بسكينة داخلية رغم كلّ ما يحصل حولنا من أزمات.
وفي محور آخر، نسأل يونان عن فرضية شعورها بالغربة في بلد يجمع كل التناقضات، وفي جزء منه هناك نظرة عنصرية تجاه السوريين. وهذا واقع قد نتجاهله ولكن من المحال أن ننفيه، فتجيب: لا إطلاقاً، الإنسان قد يتعرّض للكثير من المواقف السيّئة. ولكن في المقابل هناك مواقف جيدة، ومن هنا أنظر إلى الجانب الجيد على الأقل حولي وفي المحيط الذي أتعاطى معه. لبنان هو امتداد لسورية، وإذا ما نظرنا ضمن المشهد الجغرافي لا يمكننا إلغاء هذا التداخل، بعيداً عن القوانين والسياسة هل هناك عائلة لبنانية لا تربطها علاقة قرابة بعائلة سورية؟ هو سؤال بديهي والجواب معروف. جغرافياً، المسافة بين بيروت ودمشق أقرب من المسافة بين دمشق وحلب، أنا الآتية من أوروبا إلى بيروت لم أشعر يوماً بالغربة فيها. حين كانت حلب مجروحة وكان من الصعب الرجوع إليها، كانت بيروت هي البديل. والسنة الماضية حين بدأت حلب تتنفس وتزيل عنها ثقل الحرب ودخلتُ إليها أثناء معارك التحرير والتوحيد، توحيد حلب، كتبت على «فايسبوك» عن شعوري في تلك اللحظة، وعن الرابط الذي يشبه حبل السرّة بين بيروت وحلب.
لكن إلى أيّ مدى كانت حلب جريحة في تلك المرحلة؟ تقول يونان: كانت مجروحة بشكل كبير، ومن الصعب أن أعيد وصف المشهد، ولكن بعد فترة قصيرة عدت وقصدتها واكتشفت عظمة هذه المدينة وناسها، والاختلاف في زيارتي الثانية أن والدتي كانت معي والأمّ هي الوطن أيضاً. وحين خاطبَتْ والدتي الجيران لتخفّف عنهم كان جوابهم: «هي صفحة من المعاناة وطويناها». من هنا يمكن الجزم بعَظَمة الإنسان السوري المتمسّك بوطنيته ولم ينل منه أيّ مخطّط تقسيميّ. في سورية، الحرب قرّبت الناس، هي بنظامها المواطني تغلبت على الأزمة. والسوري يعتبر نفسه سوريّاً بالدرجة الأولى قبل أيّ شيء آخر، ولم ولن يسمح لمن أتى من الخارج بتحقيق غاياته التدميرية والتقسيمية.
التوازن الإعلامي
ونعود إلى «مترو» الذي تجوّل في البلدان العربية لنسأل يونان عن احتمال إسقاط جواز السفر عن هذه الحدود يوماً ما؟ فتقول: أستبعد هذا الأمر، ولعلّ المشكلة في التركيبة البشرية. من جهتي لا أستطيع التحليل رغم أني أرى أنّ تجربة الاتحاد الأوروبي نجحت إلى حدّ ما، ولو أنّنا شهدنا اليوم خروج بريطانيا وهناك توجه نحو نزعة انفصالية عالمية. من هنا أقول: تبقى الحدود التي وضعتها «سايكس ـ بيكو» والتي أكرهها، الشرّ الأسهل من حدود تقسيمية جديدة. وأتمنّى أن وجود «مترو» قادر على تجاوز هذه الحدود من دون تأشيرة.
وفي العودة إلى الإعلام نناقش فكرة التصدّي والمواجهة بين نقيضين في ظلّ الحرب الدائرة على الأرض وعلى القنوات التلفزيونية والمنابر الإعلامية كافة، والتي لم يوفّر مموّلوها أيّ فرصة لتمرير رسائلهم وأفكارهم وخطاباتهم بما يخدم مصالحهم وسياساتهم التدميرية. فتقول: الإعلام الذي أنتمي إليه تمكّن من الموازنة، ونجاحه تمثّل في تحقيق التوازن في هذه المعركة الإعلامية الدائرة. ومن هنا أتشرف بأني ضمن هذه المنظومة التي اسمها «الميادين». الإعلام عِلم بحدّ ذاته، والمشكلة ليست في الشعوب ومن يتلقّى الطرح الإعلامي الموجود، هناك أسلوب مدروس في توجيه البوصلة والرأي العام، وفنّ في كيفية مخاطبة الجمهور. نحن نملك كلّ المقومات البشرية ولكننا لا نملك كلّ الأدوات الإعلامية اللازمة لخلق رأي عام بشكل مطلق.
وتضيف في إطار متّصل: نحن في زمن باتت وسائل التواصل الاجتماعي هي المقياس لترسيخ حضور أيّ فرد، والمشكلة أنّ البعض في مكان ما ينسون أنهم يملكون منبرهم، ويعتمدون على الـ«سوشال ميديا». أنا مثلاً، منبري التلفزيون، وأنت منبرك الجريدة، وبالتالي يجب أن تكون وسائل التواصل جانباً مساعداً لا أساسياً لكي تصل أفكارنا وطروحاتنا إلى الناس. القصة مرتبطة بالتسويق الصحيح في نهاية المطاف.
الدراما والناس
يونان الإعلامية المثقفة والمتابعة، لها رأي حين نشير إلى الأعمال الدرامية المتكاثرة وما تضمّه من قصص مستوردة. وعن ذلك تقول: ناقشت في إحدى حلقات «مترو» موضوع الدراما التي يسمّونها اليوم موسمية، لارتباطها بشهر رمضان. وبكل ثقة أجد أنّ الدراما السورية تمكّنت من ترسيخ حضورها وقدّمت نماذج قريبة من الناس وتلامس مشاكلهم. وأذكر مسلسل «الندم» على سبيل المثال لا الحصر. وأنا ضدّ كلّ ما يتم تقديمه من أعمال مدبلجة ولا تعنيني إطلاقاً، وخصوصاً تلك التركية التي لا أجد فيها ما يشبهنا. ولا ننسى القصص المستوردة التي تشكل خطورة لناحية تغيير المفاهيم. إنّما يمكنني الجزم أن هناك جزءاً كبيراً من هذا الجيل لم ينل منه الغزو الدرامي الساعي إلى تغيير المفاهيم وتشويه الثقافة، ويبقى الأمل موجود رغم كلّ شيء.
وعن المحطّات التي تركت أثراً في قلبها خلال تجوالها في «مترو»، تقول: هناك أكثر من محطة، و«مترو» عبارة عن مراحل. في المرحلة الأولى حفر في قلبي حضور الفنان عبد المنعم عمايري ضيفاً في الحلقة الأولى من البرنامج لأنني، وانطلاقاً من قناعته بأنه يريد دعم ابنة بلده، لا أنسى هذه الالتفاتة وتلك الثقة التي منحني إياها فنان بحجم عمايري. وهناك حلقة الشابات الأرامل، ومحطّات كثيرة مثل الأمية وهجرة الشباب وعمالة الأطفال. ونحن نعلم أنّ كل هذه الحالات موجودة، ولكن خلال الإعداد والبحث عن الحلول نرى تفاصيل كثيرة، وربما ليست مهمتنا تقديم الحلول، إنما نحن نضيء على الواقع عسى أن نساهم في أن يستلهم أحد ما الحلول. وفي المرحلة الأخيرة من «مترو» هناك حلقة الموصل مع فريق «الميادين»، حيث شعرت أنني كنت معهم وشاركتهم النصر في مكان ما، وبعد القضاء على «داعش» نهائياً هناك. وكما تعلمين، تفرّدت «الميادين» في تغطية معركة الموصل. ومن الحلقات الأخيرة أيضاً الحلقة التي كانت معي فايا في حلب تحديداً، والفكرة أني أحاور شقيقتي في حلب وأمام قلعتها ومعي فريق عمل البرنامج، ولا يمكن وصف الإحساس الذي تملّكني حين وقفت أمام قلعة حلب لأتلو المقدّمة التي كتبتها من كلّ قلبي وروحي. ما كان الوصول إليها سهلاً وما كان النزول فيها أهلاً لمن قرّر العبث بمدينتنا. وهذه محطة رائعة بعظمتها وحجم النصر الذي يحتويها.
من هنا، نسأل يونان عن الأمل المتمثل بوقوفها يوماً على أرض فلسطين، فتقول: أكيد، ولديّ أمل كبير ورغبة قوية في الوقوف على أرض فلسطين وهي محرّرة بالكامل. حبذا لو نتمكن من إلغاء هذا الختم المحتلّ الذي لا أعترف به وأذهب لملاقاة أهلنا في فلسطين!
وعن الجنوب اللبناني تقول يونان: الجنوب يذكّرني بالجزيرة السورية وأراضينا فيها، حقول القمح والطبيعة، حين تحرّر الجنوب اللبناني كنت في التاسعة من العمر وأذكر فرحة أهلي بهذا التحرير.
ونسأل يونان عن السرّ الذي جمعها بـ«الميادين»، ومن اختار فعل اللقاء وفكرة «مترو»، فتجيب: ربما نحن اخترنا أن يكون هذا التعاون، ولكن إذا كان السؤال لماذا اختارتني «الميادين» أقول إنّ هذا السؤال، وحدها إدارة «الميادين» تملك الجواب عليه، و«مترو» هو فكرتي التي قدّمتها إلى «الميادين» وهي منحتني الثقة والمساحة. أنا أعدّ برنامجي بنفسي وأعمل ضمن فريق إنتاج، ومن ناحيتي أعتبر أنّ المعرفة تكون بالإقرار أننا لا نعرف شيئاً، لذلك أنا في حالة بحث دائم عن المعلومة.
وعمّا بعد «مترو» تقول يونان: حالياً أنا مستمتعة بما أقوم به، ومتمسكة بـ«مترو» ولا أفكّر بالخطوة التي قد تليه. ربما كريحان لديّ توجّه أكاديمي، لكن إلى أن يحين الوقت باقية مع «مترو»، إذ إنّ مشاكلنا لا تنتهي وتحتاج إلى مساحة للطرح والنقاش.