رصاصة الرحمة على «الصفقة» الكبرى: غزاوية
د. وفيق إبراهيم
خطاب قائد منظمة حماس إسماعيل هنية يشكّل اكتمال الطوق حول صفقة العصر الكبرى، واضعاً أطرافها الأميركيين و«الإسرائيليين» وبعض الفلسطينيين والخليجيين والمصريين في أضيق زاوية لا نجاة منها، وهي مطوّقة أصلاً بحزب الله اللبناني وتحالفاته الإقليمية والإسلامية عسكرياً وسياسياً وجغرافياً. ما يضع أطراف الصفقة الكبرى أمام حائط مسدود، وفي كل الحالات.. فالهجوم الشامل على قطاع غزة يكشف المؤامرة السعودية «الإسرائيلية»، وقد يفجّر غضباً إسلامياً عارماً متقاطعاً مع رفض روسي، أوروبي، هندي وصيني أكثر حدّة من ذي قبل، والسكوت «الإسرائيلي» إزاء ارتفاع حدّة الغضب الشعبي الغزّاوي يحوّله مقاومة دائمة. وينطبق الأمر نفسه على حالة حزب الله، مع اختلاف في حريات الحركة ومستويات القدرات العسكرية «المفتوحة».
فأي هجوم «إسرائيلي» على جنوب لبنان أو سورية لن يكون ناجحاً، للقدرات النوعية التي يتمتّع بها حزب الله الذي أصبح واسع الحركة مع سهولة بالإمداد أكثر من ذي قبل، وذلك بسبب الخطوط المفتوحة بين لبنان وسورية والعراق وإيران، واكتسابه مهارات نوعية اكتسبها من انخراطه في كلّ أنواع القتال منذ 1983، مروراً بمحطات نصر تاريخية في 2000 و2006 و2017، واكتساب الخبرات متواصل لا يتوقف أبداً. هذا بالإضافة إلى اتساع «عديد» حزب الله من ساحات بلدان أخرى التحق جهاديوها به، لما وجدوا فيه من صدقية في جهاده الذي تقمّص الصراع مع النفوذين الأميركي و«الإسرائيلي»… والخليجي، بشكل فريد.
ما يمكن هنا استنتاجه، أنّ حركة حزب الله الإقليمية أدّت أولاً إلى القضاء على الإرهاب المنتحل الصفة الإسلامية في الإقليم ولبنان، وأعادت الحياة إلى مقاومات كانت ترزح تحت الضغط السعودي «الإسرائيلي» الأميركي والخليجي، وكادت تتورّط في صفقات أرادت واشنطن تلّ أبيب الرياض تمريرها من خلال الثلاثي: السلطة الفلسطينية ونظام السيسي والأردن، برعاية كاملة من وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي تجرّأ غير مرة على وضع رئيس السلطة الفلسطينية أبي مازن في أجواء الصفقة الكبرى، وتأييد بلاده لها مع إصراره على التخلّي عن شطرَيْ القدس الغربي والشرقي، والقبول بقرية أبو ديس بديلاً من المدينة المقدسة، وإلغاء حق العودة، واعداً بأكثر من 30 مليار دولار «هبات ومكرمات» للسلطة. وهذه رشوة موصوفة تدخل في إطار بيع أوطان… بمال سعودي.
وهذا يكشف عن قبول أبي مازن بصفقة العصر، والدليل موجود في صمته عن العرض واعتقاده أنّ الجبهة الأميركية قادرة على توفير ظروفها، لكنّ هذه الظروف لم تتأمّن. وها هي حماس التي تعرّضت لضغوط مصرية كبيرة كي تقبل بـ«ابو ديس»، رفضت نزع سلاحها وترقّبت بدورها ظروفاً أكثر موضوعية للتملّص من الضغوط المصرية، «الإسرائيلية» والخليجية… والفلسطينية الخاصة بسلطة محمود عباس.
هذه الظروف وفّرها طرفان: قرار الرئيس الأميركي ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لـ «إسرائيل»، ونقل السفارة الأميركية إليها. هذا القرار الذي ألهب العالم الإسلامي غضباً متواصلاً، محرّكاً أيضاً القوى الدينية الإسلامية والمسيحية، من الأزهر إلى الفاتيكان.
أمّا الطرف الثاني، فهو إعلان جبهة المقاومة الإسلامية في لبنان بخطاب من القائد التاريخي حسن نصرالله، أنّ القدس هي عاصمة فلسطين العربية والإسلامية والمسيحية، مع الإصرار على تحويل الغضب الشعبي إلى مؤسسات مقاومة دائمة بوسيلتين: تجميع المقاومات اللبنانية والفلسطينية والسورية والعراقية والإسلامية المتنوّعة في «سبيل فلسطين»، لا سيّما أنّ الإرهاب التكفيري يُحتضَر. أمّا الوسيلة الثانية فهي توفير دعم مالي وسياسي ودولي، يبدأ من الجمهورية الإسلامية في إيران، متنقّلاً بين دول إسلامية لا تزال شعوبها بحالة غضب من إعلان ترامب بخصوص «إسرائيلية» القدس.
لذلك يتكامل مشروع حزب الله مع استجابة منظمة حماس وتخلّيها عن المفاوضات مع نظام السيسي والخليج والأردن، و«إسرائيل» التي كانت تريد تمرير الصفقة الكبرى.
ما هي إذن محاذير هذا التحالف المستجدّ بين حزب الله وحماس؟ هذا التحالف ليس جديداً، لأنّ حزب الله وإيران دعما «حماس» والمنظمات القريبة في نضالها ضدّ العدو «الإسرائيلي» في قطاع غزة والضفة الغربية. ولم يتوقّف هذا الدعم إلا بانسحاب «حماس» من هذا الحلف، ودعم بعض أطرافها للحركات الإرهابية في سورية والعراق ولبنان بذرائع مذهبيّة أُسميت زوراً بالربيع العربي… حتى كادت دولة قطر تسيطر على قرار حماس بشكل كامل، والأسباب على علاقة بانتماء «حماس» إلى كونفدرالية الإخوان المسلمين، الذي جذبها إلى تنظيمات الإخوان الحاكمة في تركيا حزب العدالة والتنمية ، وتونس والإصلاح اليميني وفيلق الرحمن السوري والجماعة الإسلامية اللبناني والإخوان المصري، إلى جانب مئات التنظيمات المشابهة في المغرب والسودان وموريتانيا.
اعتقدت «حماس» في حينه أنّ مشروع دولة الإخوان أصبح قاب قوسين أو أدنى من التحقق، فالتحقت به وهي تعتقد أنّ دولة إسلامية كبرى تستطيع تحرير فلسطين بومضة عين، حتى أدركت أخيراً أنّ هذا الأمر ليس إلا مشروعاً أميركياً «إسرائيلياً» يريد المزيد من تفتيت المنطقة على أساس مركزية القوة «الإسرائيلية» فقط. فاستيقظت «حماس»، لكن بعض «الشِّلل» الملتحقة بها لا تزال موجودة في مخيمات لبنان ومخيم اليرموك السوري تقاتل إلى جانب «داعش» و«النصرة».
الأمر الذي يوضّح حاجة «حماس» إلى تطهير كامل لنمط فقهيّ يستولي عليها، ويتعلّق بقراءات سيد قطب الذي يعتبره الإخوان فقيهاً كبيراً. وتقول هذه القراءات إنّ العالم مقسوم إلى أهل جاهلية هم كلّ سكان الأرض من مسيحيين وغربيين ومسلمين وهندوس وبوذيين ويهود، وأهل إسلام هم جماعة الإخوان. الفريق الأول مجموعات من الكافرين لا يمكن لأهل دار الإسلام التعامل معهم إلا بالتحاقهم بالإخوان أو بقتلهم، وهذا فكر تبنّاه «داعش» و«النصرة» في آنٍ معاً.
سياسياً، لا يمكن لحماس الاستمرار في الالتحاق بسياسة تركية تتعامل مع «إسرائيل» منذ 1948، ولتمتين وضعها السياسي في أوروبا و«الشرق الأوسط» يتعمّد الرئيس التركي أردوغان افتعال أزمات خطابية مع «إسرائيل»، تنتهي بعد أيام عدة من إطلاقها، ولا تبقى إلا العلاقة البنيوية بين «تلّ أبيب» وأنقرة، وهي علاقات اقتصادية وسياسية واستراتيجية مستمرة منذ سبعة عقود على الأقل.
لذلك، فالمطلوب من حماس إنجاز علاقة عميقة مع محور المقاومة إلى جانب منظمات الجهاد في فلسطين المحتلة، ما يشكّل التقاء طرفَي الكماشة الكفيل بخنق الصفقة الكبرى وإعادة الاعتبار لفلسطين: فلسطينية وسوريّة وعربية وللأديان كافة.