السادة لهم الحق في القرار
آمنة بدر الدين الحلبي
بعدما اختلطت أوراق الحب لحل الأزمة السورية بين الشرق والغرب، وامتدّ صوت العشق من الكرملين إلى البيت الأبيض، ضاعت البوصلة وأصبحت المسافة فضفاضة وكل يغني على ليلاه، باحثاً عن نصيبه من الكعكة السورية، وعاكفاً على الإدلاء بدلوه ليقرر عن شعب بأكمله، شعب كان ومازال يحمل في أعماقه الشموخ وفي روحه السيادة.
هجرتُ كل الفضائيات واسترحتُ في كينونة آدمية أتابع ما بدأت قراءته في كتاب الدكتور أحمد داود «تاريخ سورية الحضاري القديم» الجزء الثالث.
حيث وصلت إلى الحديث عن الأدب والأدباء في روما، يقول الدكتور أحمد «في ذاك الزمان ينبغي ألا تغيب عنّا الحقائق المهمة أولها أن السورية السريانية كانت هي اللغة المحكية اليومية بصرف النظر عما شابها من تحوير وتخليط نتيجة للتركيبة نفسها في ما بعد. وكان السوريون وحدهم هم الذين يقرأون ويكتبون، ويتلقى أبناؤهم الدروس في اللغة والبلاغة والفصاحة والشعر والفلسفة، سواء بالسفر إلى سورية، أو على أيدي معلمين محليين، أو وافدين من سورية نفسها أو من مواقع انتشار السوريين الأخرى.
وكان السوريون وحدَهم هم الذين أوجدوا نظام المدارس الملحقة بمعابدهم أينما كانوا، هذا التقليد الذي ظلوا محافظين عليه إلى اليوم، وصار تقليداً عربياً عاماً».
غرقتُ طويلا ولم يوقظني إلا جرس الباب وإذ بصديقتي جاءت لتسرقني من قراءتي.
قالت: ألم تكتف بعد؟
قلت: اليوم غابت كل الحقائق وأصبحنا على قارعة الأحلام.
قالت: بدأت الفلسفة ترخي بظلالها الثقيلة، تخرج من صفحات كتاب أو لوحة ألوان، وهذا ما زاد الطين بلة، تكلمي بحروف الحب أليس أجدى لنا جميعاً من وجع الدماغ.
قلت: هو عشق أيضاً، لكنه من نوع آخر لماذا تحرّمين المباح.
قالت: مللت كلّ الأعاصير، والعواصف الرعدية التي سرقت أجمل أيام عمرنا.
قلت: تلك هي الأعاصير يا صديقتي التي جعلت مَن يقرّر عنّا، ومن هو الزوج المناسب لنا.
قالت: دائماً يجب أن تحرّفي الكَلِم عن مواضعه.
قلت: أليست لغتنا الأم هي السريانية، لأنّ العربية السورية «السريانية» كانت هي لغة الكتابة والحضارة والإدارة في كلّ الأصقاع التي انتشر فيها السوريون، وكنا أصحاب شأن وعزة، وكنا السادة.
قلت: ماذا بعد أوضحي.
قلت: بما أنّ السادة أو السيد مشتقة من السريانية، فإنّ السادة لهم حق القرار.
قالت: أيّ قرار وأيّ موقف لنا ما دمنا مثل العبابيد المتفرّقة.
قلت: لكن ديورانت قال عكس ذلك «السوريون أصحاب الأجسام الجميلة، الوادعون، الظرفاء، الماكرون الدهاة، كان الإنسان يلتقي بهم في كلّ مكان من العاصمة روما، يشتغلون بالتجارة والصناعة والأعمال الكتابية والشؤون المالية، وكانوا هم المسيطرون على التجارة الدولية، وكان لهم في روما عدد كبير من المعابد، لكلّ منها مدرسته، ومكتبته، ومجلسه المكوّن من شيوخهم».
تنفسّت الصعداء وهطل لؤلؤ عينيها وكأنها تصرخ بصمت، كان صراخها أشبه بمعول فولاذي كحدّ محراث شق أحلامي التي أصبو إليها.
قالت: قتلوا أحلامنا، حرقوا حبنا، غرق أطفالنا وأصبحت أجسادهم طعاماً لسمك القرش، وما تبقى منّا لم يجد ما يغازله غير الصحف والمجلات إنْ استطاع إليه سبيلا.
قلت: طائر الفينيق لا يحترق سيجدّد أجنحته وإنْ بلغت النار أوارها، وسيعود محلقاً بأبنائه.
قالت: الحمى تأكل صدرك أم سريان عشق جديد.
قلت: هو العشق الذي لا ينتهي لحظة بهاء عند كلّ شجرة حور، على جذعها كتبنا أسامينا، وتحت ظلالها الوارفة تبادلنا صرير الأحاديث، وكنت بنظره السيدة التي يُحتفى بها.
قالت: لم يعُد هناك إلا غرف مغلقة تُدار بها جلسات الغزل بين الكرملين والبيت الأبيض، وما تبقى ما هو إلا غثاء السيل.
قلت: لكن نحن مَن سيقرّر، نحن أصحاب الأرض، نحن سادتها.
قالت: وماذا يعني إن لم نملك القرار.
قلت: السادة لهم حق القرار شاء من شاء وأبى من أبى.
قالت: ومتى نعيش للحب للحياة للعشق الذي يعيد لنا تاج عشتار، ويلبسنا عقود الفرح.
قلت: تاج عشتار سنصيغه من شفاه الدحنون، وعقود الفرح من زهر الياسمين.
قالت: سيأتي فارسُ أحلامنا؟
قلت: السيد… يملك حق القرار.