وثائقي «حكيلي عن الضاحية» الواقع كما هو لسهى الصبّاغ
اعتدال صادق شومان
من الفنانين الملتزمين الذين كرّسوا مسيرتهم الفنّية من أجل الإضاءة على قضايا الأرض والوطن، ويشكّل التزامهم الإنساني عنواناً كبيراً لإعادة تشكيل العالم وفق رؤى جمالية وإنسانية جديدة خلاّقة ومميّزة في زوايا ومساحات المشهد الإبداعي وهم اعتادوا أنّ يوجّهوا بوصلة فنّهم إلى قضايا الناس في محاكاة لأوجاعهم وهمومهم.
بين تلك النخبة يبرز اسم سهى الصبّاغ الفنانة التشكيليّة والصحافية ومقدّمة البرامج الإذاعية الثقافية ومعدّة أفلام وثائقية على قناة «الميادين». وصاحبة المواقف الحادّة دفاعاً عن الموقف الوطني بصيغته المقاومة كحقّ شرعي، لا لُبس فيه ولا مغالاة.
عنوان فيلمها الوثائقي «احكيلي عن الضاحية» الذي أعدّته الصبّاغ كتحية للضاحية الجنوبية، وجرى عرضه على قناة «الميادين» وهو من إنتاجها.
لأنّ أهل الضاحية أدرى بشعابها، وللضاحية خصوصيّة لا يعرفها إلا أهلها، ربّما «لأنّهم عانوا أكثر من غيرهم»، سواء كانوا من عائلاتها القديمة أو من سكانها، جميعهم حضروا ضيوفاً في وثائقي «احكيلي عن الضاحية»، ما عدا استثناء وحيد وهو استقبال الرئيس الأسبق للحزب السوري القومي الاجتماعي جبران عريجي، حيث وجُب حضوره عند الحديث عن احتضان الضاحية لخطاب المقاومة انطلاقاً من المداميك الأولى للخطاب يوم ألقى الزعيم أنطون سعاده قبيل استشهاده في العام 1949، خطابه الشهير من برج البراجنة الذي أعلن خلاله: «إنّ محق الدولة الجديدة المصطنعة هو عملية نعرف جيداً مداها. إنّها عملية صراع طويل شاقّ عنيف يتطلّب كلّ ذرّة من ذرّات قوانا»، ولأنّ «وراء الدولة اليهودية الجديدة مطامع دول أجنبية كبيرة تعمل وتساعد وتبذل المال وتمدّ الدولة الجديدة بالأساطيل والأسلحة لتثبيت وجودها».
ها هو التاريخ يدور، يقول عريجي، وفي دوران التاريخ منذ خطاب سعاده خمرت انتصارات غيّرت أوضاعاً كثيرة، كما وعد سعاده، وها هو البناء الحربي يكتمل، ويتلاقى الخطابان، وتتحقّق النبوءة بالوعد الصادق يعلنه السيد حسن نصرالله نصراً ملحميّاً «غيّر مجرى التاريخ».
ضيوف سهى الصبّاغ في فيلمها يحكون عبر توليفة سريعة الومض عن الضاحية الجنوبية في مكانها، عن حدودها وبيئتها وعن مكانتها الوطنية في الأحداث التاريخية، انطلاقاً من مدارسها وأحيائها العتيقة بكنائسها ومساجدها، ومزاراتها الدينية، إلى منتوجاتها الزراعية التي ترفُد بها العاصمة بيروت لكونها المنطقة الأقرب إليها ومنها أخذت اسمها ضاحية بيروت الجنوبية.
كما يتحدّث سكّان تلك المنطقة عن بدايات نشوء مجتمع الضاحية، بدءاً من البيوت المنتشرة بين البساتين إلى أحياء منذ أربعينيات القرن العشرين، إلى منطقة ومكان قائم بذاته في أذهان اللبنانيين عامة.
هي الضاحية الجنوبية، أو «الساحل الجنوبي» تسميتها الأولى كما شاع اسمها في البداية، إلى «خزّان اليسار» لقبها في أواسط السبعينيات، ولاحقاً عُرفت بـ«ضاحية المحرومين»، بعد أن توافد إليها السكّان والنازحون بسبب الحرب والهجرة الداخلية من المناطق المحرومة أصلاً في البقاع والجنوب وبلدات من الجبل، حملت الضاحية حرمانهم في طيّاتها.
ثم أصابتنا «النكبتان» وهُجّر الآلاف من أبناء شعبنا في فلسطين من أرضهم، فنشأ مخيم برج البراجنة، وكبرت الضاحية الجنوبية بهم ومعهم. وقد أُطلق عليها اسم «ضاحية البؤس» أيّ ضاحية المقهورين والمظلومين.
أمّا بعد العدوان البربري الذي ارتفع فيه الركام وصار مزاراً لكلّ مؤمن حرّ، يومها عرفها اللبنانيون كما عرفها كلّ العالم بأنّها «ضاحية أعزّ الناس»، و«ضاحية الصمود»، وأُطلقت عليها ألقاب أخرى تشبهها كـ«الضاحية الشموس»، و«الضاحية الأبيّة»، وباتت تنافس في شهرتها هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين التي تشاطرت معهما قواسم الدمار الممنهج والضحايا والقدم الهمجيّة.
هذا جلّ ما أرادت أن توصله سهى الصبّاغ إلى الناس في فيلمها الوثائقي ألا وهو أنّ تحكي عن الضاحية من منظور مختلف عن النمط السائد، بأنّ الضاحية مخنوقة سكّانياً، وفيها تعدّيات على الأملاك العامة أو «كانتون» خارج عن القانون ولا يعرف منها إلا فانات «رقم 4»، رغم شهرته في حلّ جزء من زحمة السير، مقابل بدل مالي زهيد للناس الذين باتوا يعتمدون عليه في تنقلاتهم من الضاحية إلى بيروت لتقول هذا جزء من حكاية تتشارك فيها غالبية المناطق اللبنانية ذات الكثافة السكانية وليس أمراً «حكراً» على الضاحية الجنوبية. نعم هذا واقع لا تنكره الضاحية، لكنه ليس الواقع الوحيد.
في جولتها بصحبة كاميرا «الميادين» في أحياء الضاحية، تقول سهى: «لا هذه ليست كلّ الحكاية، وليست هذه فكرتي عن الضاحية، والبعض ليس لديهم أدنى فكرة كيف يعيش سكّانها المطرّزون بألوان وأفكار مختلفة حدّ التناقض، ولا علم لهم بما عانت حارة حريك، وكيف لم تسلم بئر العبد من نيران حرب تموز، وتغيب عنهم قصة بحر الأوزاعي الذي كان مقصد سكّان الضواحي كلّها».
نجحت سهى الصبّاغ وضيوفها في توخي المقصود من الحكاية أو بعضاً منها، ووصلت فكرتها بوضوح عن ضاحيتنا، بواقعها كما هي.
رغم أننا نسجّل أنّ بعض الكلام شرد عن السياق العام خدمة لسياقٍ خاص في أكثر من قول وردّ على لسان الضيوف، فكان من الممكن استغلال الوقت الضائع في رفد الفيلم بمعلومة تغني النصّ والصورة بالقول الوافي.
عدا أنّ الفيلم فاتته الإشارة إلى أنّ رئيس جمهورية البلاد وأحد طرفَي «وثيقة التفاهم» الشهيرة العماد ميشال عون يعود في نشأته الأولى إلى هذه البيئة من الضاحية الجنوبية للجمهورية اللبنانية.