السيسي يذهب بعيدا!
د. وفيق إبراهيم
يزداد جنوح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي للالتصاق الكامل بالسياسة الأميركية من خلال استرضاء وكيليها الإقليميين السعودية و«إسرائيل» فيؤيد الأولى في حروبها في اليمن والبحرين ويسترضيها في جحودها القاتل في سورية والعراق. ولا ينسى «إسرائيل» فيتبنّى سياسات «فلسطينية» تؤدي إلى تمرير «صفقة القرن».. وتهديد فلسطين بكاملها لإرضائها وكسب ودّها. يشكّل هذا المنحى امتداداً لمشروع الرئيس السابق أنور السادات الذي أطلق نظرية أدّت إلى استسلام مصري كامل لـ«إسرائيل» بـ«اتفاقية صلح» في العام 1979 أخرجت ارض الكنانة من الصراع العربي ـ الإسرائيلي. وأطلقت رصاصة الرحمة على نظام عربي عام كان يتسم بالضعف لكنه لم يستسلم، كحال مصر وسرعان ما انضوت السعودية في هذا الحلف، «بداية بالسر» حتى أصبح علنياً من دون مواربة وبهدفين اثنين تدمير إيران والقضية الفلسطينية سوية.. وهذا يتطلّب تدمير سورية آخر معاقل الرافضين للاستسلام لـ«إسرائيل» ورعاتها الأميركيين والإقليميين.
كان السادات يقول إنّ 99 في المئة من أوراق الصراع العربي ـ الإسرائيلي هو بين أيدي السياسة الأميركية متوصّلاً إلى استحالة النصر على العدو الإسرائيلي إلا بصلح أشبه بالاستسلام من حيث النتائج ومن خلال وساطة أميركية.. وهذا ما نفّذه، لكنه أدّى أيضاً إلى اغتياله من قبل مجاهدين مصريّين رموه بالرصاص في استعراض كان يحيّي فيه، من على منصة الشرف الجيش المصري فسقط ضحية استسلامه للإسرائيليين. بديله الرئيس حسني مبارك، استكمل مسيرته، الإسرائيلية محاولاً التوغل في التطبيع مع «إسرائيل» لكنه لم يلقَ صدى شعبياً مع الإقرار بإقبال قسم من القطاع الخاص الاقتصادي في مصر على التطبيع بأشكال «مواربة».. أي بحذف شعار «صنع في «إسرائيل» عن البضائع المستوردة.. واستمرار «إسرائيل» في وضع يدها على غاز صحراء سيناء التزاماً ببنود معاهدة كامب ديفيد وبأسعار شبه مجانية فشكل مبارك استمراراً لمشروع السادات الانبطاحي مقابل استمرار التأييد الأميركي لولايته الرئاسية المتعاقبة والدعم من «إسرائيل» المجاورة وتغطيته خليجياً.. ما أدّى إلى تعميق حلف السعودية، مبارك، بخلفية إسرائيلية وسط رفض قوي من حلف المقاومة وسورية والجمهورية الإسلامية في إيران.
وللأمانة فإنّ الاخوان المسلمين في مصر كانوا على طرف نقيض مع المحور السعودي ـ المصري ـ الخليجي.. إنما لأسباب تتعلّق بتأييدهم تركيا أكثر من إيمانهم بقتال «إسرائيل».
لكن اندلاع الاضطرابات الداخلية في تونس وليبيا ومصر ولاحقاً في سورية والعراق.. أوقف «مشروع السادات الإقليمي وليس المصري» فقط، لمصلحة مشروع تفتيت كامل المنطقة إلى كانتونات متحاربة لا تقوم لها قائمة في وجه «إسرائيل» وتصبح أكثر انضواء في إطار أحادية أميركية تمسك بعنق القرار الدولي.
لقد اتّسمت مرحلة الرئيس مرسي الإخواني بعداء شديد مع الشارع المصري من جهة والجيش من جهة ثانية مقابل نسج علاقات حميمة مع «إسرائيل» والأميركيين من جهة ثالثة، على خلفية ولاء كامل للسياسة التركية التي يرسمها الإخوان المسلمون في انقرة بزعامة أردوغان.
يتبيّن بالاستنتاج أنّ كامل مرحلة ما بعد السادات أيّ من تاريخ اغتياله وحتى 2018، تميّزت بتبنّي مشروع كامب ديفيد الذي سلّم مصر إلى «إسرائيل» منهياً العلاقة مع الاتحاد السوفياتي في حينه وفاتحاً أبواب «أمّ الدنيا» للإسرائيليين، من هنا فإنّ قراءة مرحلة السيسي تكشف أنّ الرجل بنى سياسات تتعلق بتأمين حاجات مصر الاقتصادية والمبالغة في تأييد الأميركيين والخليج.. والاستمرار في معاهدة كمب ديفيد.. وبواسطة الدعم الأميركي والجيش والمخابرات ووقوف الشعب المصري معه ضد السياسات الاجتماعية المتشدّدة للإخوان المسلمين، استطاع أن يضمن تأييداً شعبياً واسعاً تحت ضغط طرفين اثنين. الإرهاب الإسلاموي والإخوان المسلمين.
ولاستجلاب أموال سريعة من الخليج كان السيسي يقوم بخطوات تبدو وكأنه ذاهب لتأييد إيران أو حلف المقاومة، وسرعان ما يعود إلى جذره الأصلي. ينفتح على روسيا تارة لإثارة ذعر الأميركيين، ملوّحاً للصين للأسباب نفسها.. لكنه يعود آخر النهار إلى الجحر الأميركي ـ السعودي بعد مرحلة مضنية.
وتتلخّص مشكلته في أنه يريد أموالاً في مرحلة تتراجع فيها أسعار النفط وعائدات الدول.
ويعتقل ولي العهد السعودي محمد بن سلمان أولاد عمومته لينتزع أمواله ولا يسمح الأميركيون لأيّ طرف آخر ان تقتطع الإتاوات التي يفرضونها على محمياتهم.. ألم يسلبوا السعوديين مبلغ 500 مليار دولار دفعة واحدة؟
لذلك لم يجد السيسي حلاً داخلياً لكارثة مصر الاقتصادية. ولم يجذب مساعدات وقروضاً من دون فوائد من الخليج. كما ان مساعدات واشنطن والاتحاد الأوروبي لا تأتي إلا زهيدة وبشق الأنفس.
ظل الوضع الطبقي المصري على حاله.. بأرقام تؤشر إلى احتمال اندلاع ثورات اجتماعية في كل وقت، فلا أحد يصدّق من أساتذة علم الاجتماع أن دولة يمكن أن تكون مستقرة ولديها أكثر من 55 في المئة من سكانها «تحت خط الفقر» أي يعيش الواحد منهم بأقلّ من ثلاثة جنيهات يومياً. إلى جانب «ثلاثين في المئة من الفقراء» وعشرة في المئة أبناء الطبقة الوسطى وخمسة في المئة فقط يحوزون على ستين في المئة من الثروة الوطنية المصرية!!
ويقولون إنّ قسماً كبيراً من هؤلاء الفقراء يتدبّرون أمر غذائهم بمؤن تردهم أسبوعياً من أهاليهم في الأرياف.. وهذا حال الفقراء في بلاد الشام أيضاً.. «نظام المونة الريفي».
لكن السيسي اعتمد إلى جانب المؤن الريفية أسلوبين: إطلاق الوعود البراقة مع الإكثار منها وربطاً بمستقبل واعد لم يعد بعيداً كما يقول، وأساليب قمع قاسية، تفبرك اتهامات بالانتماء إلى الاخوان والإرهاب لأيّ مواطن يتحرك بسبب الجوع.. فلا يشعر المعارض إلا وهو مكبّل اليدين تنقله أجهزة المخابرات إلى أقبيتها بمواكبة إعلامية تحذر من التنظيمات الإرهابية. لقد طور الرئيس السيسي سياساته الداخلية والخارجية بالتزامن مع بدء انتخابات رئاسية جديدة يبدو انه يريد أن يكون مرشحها الوحيد والحصري. لذلك أرهب المرشحين الآخرين بأساليب بوليسية متهماً البعض منهم بالفساد، والبعض الآخر بالعمالة والإرهاب، ولم يسمح لأحد بإعلان ترشيح طبيعي.. مقابل تشدّد الأجهزة الأمنية في ملاحقة الأهداف السياسية التي قد تشجع على معارضة التجديد الرئاسي له حتى انّ الوضع الحالي في مصر يبدو وكأنّ السيسي انتخب نفسه لولاية جديدة..
وللمزيد من محاولات جذب تأييد الناس، أطلق حملة «بالتعاون مع «إسرائيل» لتجفيف صحراء سيناء من الإرهاب.. لم تؤد حتى الآن إلى الأغراض المرجوة منها.. وتبيّن أنها ليست أكثر من محاولة لتشديد الحصار على قطاع غزة لإرغام منظمة حماس على الالتحاق بصفقة القرن، والدليل أنه دعا ممثليها للتفاوض مع السلطة الفلسطينية في القاهرة برعاية المخابرات المصرية.
وما أن استشعر نظام السيسي باستمرار حماس على مواقفها الرافضة للاستسلام لـ«إسرائيل» حتى طوّق حركة قيادات حماس من مصر إلى غزة وبالعكس.. مسدياً خدمات إلى الولي الأميركي والمتزعم السعودي الإقليمي والحليف الإسرائيلي. ولم يتوانَ عن كشف كامل أوراقه المؤيد به للرياض في اليمن والبحرين والعراق وسورية.
ووصل به النزق لكسب تأييد الاميركيين أنه سمح لشركات مصرية بشراء غاز إسرائيلي بـ16 مليار دولار. أليس هذا جزءاً من صفقة القرن؟ وهي التي تربط الاستهلاك المصري بـ«إسرائيل» لقرن من الزمن؟ ألم تعلن مصر عن اكتشاف أكبر حقل غاز في أراضيها بحاجة إلى سنوات عدة ليصبح قابلاً للاستثمار. وهذا يدل على ان نظام السيسي قادراً على ابتياع غاز عربي أو إيراني، إلى ان يبدأ الاستثمار المصري..
هذه هي الأسباب التي أملت على الرئيس السيسي ضرورة كسب التأييد الأميركي ـ السعودي للعودة إلى قصر الرئاسة، وهذا يستلزم العودة إلى تبني مشروع السادات الذي تطوّر ليصبح صفقة القرن الجديدة.
لكن المسألة هي بيد أبناء النيل الذين يعرفون أنّ أمنهم السياسي والاقتصادي والوطني مرتبط ببلاد الشام في وجه إرهاب الأميركيين والإسرائيليين. وآل سعود الذين يطبّقون السياسة الغربية الاستعمارية منذ مطلع القرن العشرين وعلى حساب إخوانهم العرب والفلسطينيين وأبناء شبه جزيرة العرب.