الصراع على تركيا: سعي إليها كحليف لتجنّب مؤامراتها…!
يارا بليبل
تعدّ السياسة التركية من السياسات الأكثر جدلاً في المنطقة والعالم نظراً إلى تعدّد أدوارها والتناقض في تحالفاتها. لكن اللاعبين على اختلافهم ينظرون إليها من زاويتين: الأولى، كنقطة تقاطع بين الإسلام والعلمنة والثانية تتمثل بالطاقة.
لذا، تسعى الدول اللاعبة على الساحة الدولية لضمان تركيا كحليف حتى لا تكون جزءاً من مخطط معاد لها.
إن الجدل حول السياسة التركية ليس بالجديد. فلقد شكلت السلطنة، منذ الحرب العالمية الأولى، محط أنظار اللاعبين على الساحة الدولية. إمتدادها الجغرافي بموازاة أهمية الموقع بالنظر الى الحيّز المطلّ على شواطئ المتوسط من ولايات، خصوبة الأراضي ومتوالية الحضارات التي مرّت عليها.
وحول هذا الجانب، قال المختص بالشأن التركي الدكتور محمد نور الدين لـ»البناء»، إنّ «تركيا من دون شكّ، تمتاز بموقعها الجغرافي الإستراتيجي بين أوروبا وآسيا، بين شمال البحر الأسود والبحر المتوسط»، مضيفاً: «بالمعنى الجيو- استراتيجي تشكل تركيا صلة تقاطع بين القوى الإقليمية الكبرى، بوصفها عضواً في حلف شمال الأطلسي ومتآلفة مع المناخ الأوروبي عبر مسار المحادثات مع الاتحاد الأوروبي للانضمام إليه، كما أنها حضارياً تشكل جزءاً من مكتسبات العالم الغربي المسيحي المتمظهر بالعلمنة، والقوانين المدنية والتطورات العلمية هذا من جهة، في مقابل واقعها كدولة جوار مسلم تاريخياً مع دول المشرق والشمال».
تناوُل هذا الأمر من خلال ما تمّ طرحه، لا يهدف إلى العودة بالتاريخ الى الوراء أو الإسهاب في أمور لم يعد الحديث عنها يجدي نفعاً. إلاّ في حال طرحه كنقطة انطلاق، وهذا هو المقصد، من أجل ربط الحاضر بماضٍ، لم تخلعه وريثة السلطنة العثمانية، المتمثلة بالجمهورية التركية.
لقد أعلن مصطفى كمال أتاتورك ولادة الجمهورية التركية في العام 1923، ناعياً بذلك حكم «الخلافة الإسلامية» الذي دام ما يقارب ستمئة عام.
ولخطورة الحدث بنظر بعض الإسلاميين، رأى هؤلاء في خضمّ تبريرهم لعوامل ظهور جماعة «الإخوان المسلمين» في مصر على يد الشيخ حسن البنّا عام 1928، أنها «ردة فعل طبيعية» إزاء قيام الجمهورية التركية وزوال «البركة الربانيّة» المتمثلة بشخص السلطان كائناً من كان، حاكماً بالقسط أو آمراً بالمال!
بعد متوالية انقلابات عسكرية، وأحداث داخلية وتعاقب الكثير من العهود على حكم الجمهورية الوليدة، تسلّم حزب العدالة والتنمية زمام السلطة، القائم على أساس المنتسبين سابقاً لحزب الفضيلة المنحلّ بقرار من المحكمة الدستورية في تركيا عام 2001، وذلك إثر انتخابات مبكرة عام 2002 أهّلته لإنشاء حكومة منفرداً وتحصيله لما يقدّر بثلثي مقاعد البرلمان التركي.
ومن سياسة «صفر مشاكل» التي عُرف بها وزير الخارجية ورئيس الحكومة الأسبق أحمد داود أوغلو «المعزول» سياسياً بتمنّ وجاهي يعكس «حب السيطرة» لدى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، فالسّاحة لا تتسع لإثنين معاً والأضواء لا بدّ لها أن تأخذ وجهتها اللازمة بحكم الدور العالي.
لم يختر أردوغان سلوك طريق شريكه «داود أوغلو» أو الاحتذاء به، فلربما الرجل مهووس بحياة السلاطين. ولم يكتفِ بإحيائهم في المدارس والطرقات والمشاريع الملزّمة بأسمائهم، بل كان لا بدّ له من اختلاس النظر الى الخارج المحيط به، والاستغناء عن سياسة منافسه التي أطلّت بتركيا بوجه مناصر للقضية الفلسطينية متعاون مع سورية والدول العربية. فلا «مزاج» للرجل مع السلام غير المولّد للعروض السياسية ولا حتى المسوِّق له على الصعيد الشخصي.
هذا ما يبرّره الدكتور نور الدين بقوله «إنّ تركيا بعد انقطاع زاد عن تسعين عاماً، كان لا بدّ لها من الدخول الى المنطقة كمرحلة أولى، تسوّق لنفسها من خلال ترميم العلاقات مع كلّ من السعودية ومصر وسورية، وهذا ما ظهر خلال الفترة ما بين العامين 2002 و2010-2011. لتأتي المرحلة الثانية، التي تجلت بالإضطرابات التي شهدتها المنطقة العربية مشكلةً فرصةً سانحة لتفك تركيا شراكتها في إدارة الإقليم والمنطقة بالتعاون مع إيران ومصر والسعودية، في سبيل تحقيق رغبة التفرّد والهيمنة على المنطقة وإحلال أنظمة بديلة».
فاعتلى أردوغان ميدان المصوّبين على سورية متحمّساً للصلاة في المسجد الأموي بعد «تحريره»، على حدّ تعبيره، و»إعادة الأمور إلى مجاريها» مع العدو الصهيوني، ليليها تدخل عسكري في منطقة بعشيقة العراقية بداعي محاربة الإرهاب، موجهاً إهانة سياديّة للدولة العراقية وجيشها وقوات حشدها الشعبي، ومن بعدها تدخل عسكري في الأراضي السورية تحت مسمّى «عملية درع الفرات» وشبيهتها في السبب والمسبّب «عملية غصن الزيتون» المستمرة منذ العشرين من كانون الثاني.
من دون الإغفال عن سياق التطورات السياسية في الداخل التركي، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في 15 تموز 2016، وما لحقه من عملية «تطهير» لوحدات الجيش والقوات العسكرية التي شكلت فرصة لإمساك زمام الأمور العسكرية، وما نتج عنه من إحكام السيطرة على مختلف الجبهات الداخلية.
تتضح، من كلّ ذلك، عنجهية تركية إقليمياً، بموازاة كثرة العروض التي تدفقت غربياً كممرّ لعبور الإرهابيين الى الأراضي السورية، وقاعدة للتدريب العسكري وغرفة عمليات مشتركة بالإضافة لتحمل عبئ اللاجئين ومحاولة تحسين أوضاعهم منعاً لـ»تسربهم» ناحية الغرب، وكل شيء له مقابل.
وكلّما علت وتيرة التصريحات التركية، ظهرت التسهيلات الأوروبية على شكل صفقات إقتصادية وتجارية وعسكرية. يقابل ذلك تعاون شبه مستقر تحكمه الظروف بين كل من القيادة التركية والروسية والإيرانية في الشأن السوري، تمظهر بمؤتمر آستانة ولقاءات سوتشي والتي، أصلاً، أتت ضمن إطار المحاولات الجادة لفرض واقع إنتهاء صلاحية الأمم المتحدة كوسيط لحل النزاعات.
ونسبةً لعمر الأزمة مع سورية، فإنّ هذا الودّ، المستجدّ مع الجمهورية الإسلامية في إيران تعود بذرته إلى موقف الأخيرة إزاء محاولة الإنقلاب آنفة الذكر، والتي أبدت القيادة الإيرانية وقوفها الى جانب الإستقرار في تركيا المتمثل بالشرعية. ولا إمكان بالتأكيد لفصل هذا الموقف عن رؤية تركية مضمرة بتغيير ميزان القوى لصالح الجيش السوري في الميدان، حتى وإنْ أبت الاعتراف بل وزادت من حدّة تصريحاتها كإنعكاس لحجم الخيبة المرفقة بالهزيمة السياسية التي منيت بها، هذا ما يؤكده نور الدين، مضيفا في حديثه لـ «البناء»: «إنّ تركيا ينظر لها كنقطة تقاطع بين الإسلام والعلمنة، نقطة تقاطع مستجدة في قطاع بات يشكل عصب الصراع في العالم المتمثل بالطاقة، وبالتالي تركيا هدف لكلّ المحيط المجاور لها».
مفنّداً ذلك لكونها «تشكل أولاً سبباً للتمسك الغربي رغم الخلافات التي تطفو بين الحين والآخر، وهدفاً روسياً ثانياً، في سباق الصراع الروسي – الغربي والرغبة في استمالة تركيا وإبعادها قدر الإمكان عن الغرب، وهدف إيراني ببعد مذهبي ومحاولة جذب تركيا السّنية إلى طرفها في الصراع مع السّعودية ثالثاً».
تحاول كلّ من روسيا وإيران احتواء تركيا والحفاظ عليها كدولة أميل إلى حلفها، مع علمها المسبق بطبيعة العلاقات التي تربط هذه الأخيرة بالولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا الغربية بشكل خاص. الأمر الذي يشدّد عليه نور الدين لـ «البناء» معتبراً «أنّ الجميع يريد أن تكون تركيا إنْ لم نقل إلى جانبه فعلى الأقلّ أن لا تكون جزءاً من مخطط معادٍ له».
هذا ما يضعه نور الدين ضمن إطار «خسارة الرهان التركي في المنطقة وانكسار العلاقة مع الولايات المتحدة الأميركية الأمر الذي دفعها مرغمةً باتجاه روسيا وإيران من دون الانخراط في هذا الحلف بشكل عضوي».
مشيراً إلى «أهمية إدراك أولوية تركيا، القاضية بتصحيح وإعادة تطبيع العلاقات مع الولايات المتحدة الأميركية لتعيد التوازنات كما كانت عليه، فتركيا جزء من الغرب الذي سيصون لها مكاسبها التي حُققت مؤخراً مع الحفاظ في المقابل على شعرة معاوية السميكة مع كلّ من روسيا وإيران» على حدّ تعبيره.
في خضمّ ما سبق، ثمة شيء وحيد جلي، وهو أنّ السياسة الخارجية لتركيا تتجه نحو البراغماتية فلا معاداة إلى حدّ الانقطاع ولا تسليم عن فائض ثقة.
فلن تستطيع تركيا بحسب نور الدين،»الخروج من تحت عباءة حلف شمال الأطلسي الذي بدوره لا يريد التخلي عنها». مضيفاً أن «الأصدقاء» الجدد روسيا وإيران ، هم عمليّاً أعداؤها تاريخياً ولا ائتمان بهم».
دخلت تركيا بـ»معيّة» الخارج لعبة الكبار، لا يمكن وسم تجربتها بالفشل ولا حتى بالنجاح. نسبياً، صُفعت تركيا ومُنعت من تخطي حدّ معيّن بموازاة ما عدّ بالانتصارات أو مكاسب، على أقلّ تقدير، لن تبذّر بها كالسيناريو الذي ينقله لـ»البناء» نور الدين بـ «أنّ تركيا أولويتها في المناطق التي احتلتها في سورية. لناحية عدم التخلي عنها إلاّ في حال تسليمها لأهلها الحقيقيين، وهم اللاجئون في تركيا الموالون لها».
بالتالي يستطيع أيّ مراقب أن يستشفّ وجود «مخطط تركي ينسف ما يُعرف بـ الشريط الكردي واستبداله بشريط موالٍ لتركيا، لا يعتقد بإبطاله روسياَ نظراً إلى رغبة روسيا بكسر العلاقة التركية الغربية»، بحسب نور الدين.
كيف سيكون شكل الصراع على تركيا بعد تلك المستجدات، وما هي النتائج المرتقبة له خصوصاً على الساحة الإقليمية وتحالفاتها؟
… الأيام المقبلة ستجيب حتماً.