د. هياف ياسين لـ«البناء»: لدينا كنوز فنية متجذرة وأوّل تدوين موسيقي مسماري في العالم تمّ اكتشافه على ساحل اللاذقية
حاورته: عبير حمدان
يمكن للموسيقى أن تتجلّى بإطارها السحري حين تصبح شغفاً مقترناً بالعلم والبحث الجدي عما تختزنه حضارة هذا المشرق من كنوز لا يدركها الكثيرون كوننا شعوب تجنح نحو الاستهلاك فيما يمكننا السعي لقلب المشهد إذا ما قرأنا تاريخنا بعمق ووعي.
من هنا يجهد الدكتور هياف ياسين لجعل اللغة الأكثر رقياً في متناول الجميع، وهو الذي يتحدّث عن تاريخ الموسيقى بشغف العارف للكثير من مكنوناتها وأسرارها، هذا الشغف جعله يتمرّد على رغبة الأهل حين أصرّوا على أن يدرس الهندسة لقناعتهم بأنّ دراسته للموسيقى لن تؤمّن له كلّ مستلزمات الحياة حين يرتبط الأمر بالكسب المادي، لكن ياسين لم يستطع التغلب على الفنان الكامن في داخله منذ الصغر ليغادر كلية الهندسة ويلتحق بكلية التربية الموسيقية في الجامعة اللبنانية.
لم يقف ياسين عند حدود الدراسة الأكاديمية بل غاص أكثر في الجذور وبحث عن تاريخ معظم الآلات الموسيقية وأسرته آلة «السنطور» الفارسية فسعى أن يحولها إلى آلة عربية ليؤسّس لاحقاً «فرقة التراث الموسيقي العربي» التي جالت كلّ لبنان ويؤكد أنّ عمر هذه الآلة هو 3000 سنة مشيراً إلى أنّ العراق هو البلد الوحيد الذي استخدم «السنطور» بشكل كبير في المقام العراقي فقط.
مساء السبت 26 أيار يقدّم مسرح المدينة والجامعة الأنطونية «4000 سنة من الموسيقى في المشرق» كناية عن رحلة نغميّة عبر الزمن، موطنها المشرق، تبدأ بنشيد أوغاريتيّ من الألفيّة الثانية قبل الميلاد، وتنتهي بترنيم قصيدة صوفيّة شهيرة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربيّ…
يتحدث ياسين عن هذا الحدث في لقاء مع «البناء» مؤكداً على أهمية تكريس هذه الثقافة وتصديرها إلى العالم.
بلاد الشام أرض خصبة
نسأل ياسين عن ماهية الموسيقى، حيث أنّ كلّ طرف معني بها يراها من منظوره، فيقول: «هناك جانب فني للموسيقى وهو مرتبط بكيفية العزف والغناء والتلحين، وهناك علم الموسيقى الذي كان ناشطاً في التاريخ في اليونان والثقافة العربية أو المشرق العربي وصولاً إلى علم الموسيقى في الغرب وما يتصل فيه من تحرك الصوت مع حركة الهواء. أما بالنسبة إلى الجانب الفني كما نعرف جميعنا أنها لغة تواصل لديها مفرداتها وكلماتها ومعانيها وتختلف من مكان إلى آخر».
لكن إلى أيّ مدى هي لغة عالمية مع وجود اختلاف بين الموسيقى الشرقية والغربية وفقاً لتباين الثقافات، يجيب ياسين: «دعينا نتكلم ضمن إطار علمي، فكما الكلام لغة عالمية كذلك الموسيقى، بمعنى أنّ الإنسان وفي أيّ بيئة كان الله أعطاه القدرة على الكلام وما يختلف هو البيئة التي وُلِد فيها، كذلك هي الموسيقى. إذاً الفرق في المكان أيّ أنّ من يولد في فرنسا على سبيل المثال سيتكلم الفرنسية ومن يولد في سورية سيتكلم العربية بشكل تلقائي كونه يعيش في إطار ثقافي إجتماعي مختلف عن الإطار الإجتماعي الموجود في فرنسا، إذاً الاختلاف في الألسن وهذه الألسن تتطلب إطاراً اجتماعياً محدداً، وكذلك الأمر بالنسبة للموسيقى التي هي لغة عالمية وكلّ الناس يمكنها أن تسمع وتغني ولكن هذه اللغة الموسيقية لديها ألسن مختلفة. اللسان الموسيقي المطروح في هذا المشرق العربي أو إذا أردت القول في سورية الكبرى أيّ بلاد الشام مختلف عن اللسان الموسيقي الغربي، قد يكون هناك قواسم مشتركة ولكن في المقابل هناك اختلافات كثيرة، وهذه الاختلافات تحمل في طياتها خصوصيات لموسيقانا التي يجب أن نضيء عليها، وهذه هي رسالتنا كموسيقيين، لذلك نبحث أكثر ونتجذر في هذه الخصوصيات كي نعرف أكثر عن موسيقانا ونعمل على مشاركتها مع كلّ العالم».
وفي ما يتصل بالمعقل الثقافي للموسيقى المشرقية يقول ياسين: «حين نتكلم عن الاطار التاريخي فيمكن الجزم أنّ المعقل الثقافي للموسيقى في هذه الأرض هو الدولة الأموية في دمشق والدولة العباسية في بغداد وما عدا ذلك مجرد محاولات لم تصل إلى التفرّد، وإذا كان القصد المحيط الخليجي أو ما كان يُعرف ببلاد الحجاز ففي العصر الجاهلي هؤلاء لم يعرفوا ماهية أيّ شيء سواء الفن أو الدين أو الموسيقى، وحين ارادوا ابتكار موسيقى خاصة لم يتمكنوا من ذلك بل إنّ معظم ما أخذوه كان من الساحل السوري ومن دمشق وهي ثقافة لديها طابع مسيحي إذا أردت، وفي نفس الوقت أخذوا إيقاعات من بغداد، وبالتالي ذابوا في المحيط ولم يتميّزوا بشيء خاص بهم، وحين نبحث في الكتابات الموسيقية القديمة نتكلم عن ابن سينا والكندي والفارابي وإسحاق الموصللي وناصيف زلزل لنرى أنّ كلّ هؤلاء متموضعون في بغداد ويقتربون إلى دمشق، من هنا نؤكد أنّ من كانوا في دول الخليج لم يصلوا إلى الريادة».
ويضيف في إطار متصل: «هناك نوعان من الموسيقى، الشعبية التي هي بمتناول الجميع، وهناك موسيقى ذات طابع معقد على الصعيد الموسيقي والنظام اللحني ونظام آلات العزف والإطار التقني ويسمّونها في المصطلح العالمي «الموسيقى الفنية»، ونحن في هذا المشرق لدينا موسيقى كلاسيكية وروادها من العازفين والباحثين هم من بلاد الشام لأنها أرض خصبة وفيها الكثير من المفكرين وتحمل في طياتها الكثير من التلاقي الاجتماعي والاثني المختلف والذي انصهر تحت هوية مشرقية كبيرة وقدّم الذخر الكبير في الموسيقى ومختلف الفنون».
حين يتكلم التاريخ فنحن ملوك هذا الزمن
من هنا نطرح إشكالية الاستيراد التي نعتمدها في مجتمعاتنا الغنية تاريخياً بالثقافة فيما يمكننا أن نصدّر ما لدينا إلى العالم، فيقول ياسين: «من جهتي أؤكد أنّ مسيرتي الفنية معاكسة لهذا التيار، بحيث أقول دائماً إننا نمتلك كنزاً علينا أن نعرف قيمته، وأوّل تدوين للموسيقى في العالم تمّ اكتشافه ككتابة مسمارية هنا على ساحل اللاذقية، فلماذا يسعى البعض للذهاب إلى الغرب وطلب الصدقة حتى في الفن، برأيي هذا ليس شيئاً عبثياً إنما هو جزء من مؤامرة كبيرة وممكن أن نسمّيها الاستعمار الثقافي الذي يدخل علينا ويحاول تجريدنا من كلّ مقدراتنا المادية والإنسانية، بالنسبة للمقدرات المادية التي لن نغوص فيها الآن سواء من بترول ونفط وإلى ما هنالك، وما يهمّني المقدرات الثقافية من فن وتراث وتاريخ، هي بكلّ بساطة محاولة لطمس هويتنا الثقافية لنصبح تابعين بدل أن نكون ملوك هذا الكون على قاعدة أنّ التاريخ يتكلم في كافة الأصعدة. نحن دعاة الانفتاح على الثقافات العالمية ولكن أولاً التعرّف على الهوية الثقافية والخروج بها إلى هذا العالم الذي يتسم بالعولمة بما فيها من إيجابيات وسلبيات قادرة على إذابة أيّ أحد فيها».
وعن تفاعل الناس مع هذا الواقع القائم والبحث عن الهوية يقول ياسين: «قد نكون قلة سواء كموسيقيين أو كجزء يتلقى ما نقدّمه وهذا مردّه إلى ما نعيشه من حروب متنقلة بحيث أنّ هذه المنطقة لا تعرف الهدوء والاستقرار بسبب أطماع الاستعمار ولكن رغم ذلك هناك من يتفاعل ويتقبّل، ودورنا أن نوسع الإطار لنتمكّن من الوصول إلى أكبر قدر من الناس بما لدينا من كنوز، وهذا يتطلب اليقظة والتوصيف بشكل صحيح لآثارنا الموسيقية لتصل إلى كلّ الجيل. من هنا يمكن القول إنّ الأمر يبدأ بالتربية ومنذ يبصر أبناؤنا النور على أساس علمي ومعرفي».
ويتحدث ياسين عن الحفل الموسيقي الذي سيُقام مساء السبت 26 أيار الحالي على خشبة مسرح المدينة في بيروت، فيقول: «سنكون على موعد مع حفل موسيقي يأتي بدعوة من الجامعة الأنطونية التي أمثلها، وأنا المدير الأكاديمي لكلية الموسيقى وعلم الموسيقى فيها، ومسرح المدينة في بيروت جراء تعاون بين الجامعة وإدارة هذا المسرح، وسنقيم حفلاً يصبّ في الإطار الذي كنا نتحدث فيه حول التاريخ الموسيقي لبلاد الشام، وسنحاول أن نقدّم خطاً تاريخياً لهذا المشرق وسنقدّم ما هو ملكنا جميعاً مع فرقة من هذه الأرض.
حتمية تجذير هويتنا الثقافية
«4000 سنة من الموسيقى في المشرق» كناية عن رحلة نغميّة عبر الزمن، موطنها المشرق، تبدأ بنشيد أوغاريتيّ من الألفيّة الثانية قبل الميلاد، وتنتهي بترنيم قصيدة صوفيّة شهيرة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربيّ، بحسب تقليد عصر النهضة العربيّة، مروراً بترنيم نشيد سريانيّ مارونيّ ونشيد سريانيّ أرثوذكسيّ ونشيد روم أرثوذكسيّ وصوت من العصر العبّاسيّ، وبترنيم لقصائد صوفيّة شهيرة لرابعة العدويّة ولعمر بن الفارض. يؤدّي هذه الحفلة أعضاء تخت الموسيقى الفصحى العربيّة، الوافدون من مشارب متعدّدة، يجمعهم السعي إلى تجدّد متأصّل عبر مسلك التقليد التأويليّ الموسيقيّ، وذلك في سياق عملهم في كلّيّة الموسيقى وعلم الموسيقى في الجامعة الأنطونيّة، التي تنكبّ على دراسة التقاليد الموسيقيّة المتنوّعة وتعليمها وإحيائها، بإشراف عميدها البروفيسور نداء أبو مراد».
ويأسف ياسين لأنّ هذه المبادرات تبقى في إطار ضيّق وخاص بدل أن تكون عامة، ومن هنا يتوجه إلى الجهات المعنية وإدارات المهرجانات اللبنانية للتعاون بشكل جدي والإضاءة على ما نمتلكه من إبداع في هذا الشرق، مشيراً إلى الحاجة الملحة أن تكون لدينا ثقافة سياسية تتلاقى مع قرينتها الفنية ومن حق الفرق الموسيقية أن تجد مكانها على جدول صانعي هذه المهرجانات.
ولا ينفي ياسين التقصير الإعلامي حين يرتبط الأمر بالثقافة الفنية، فيسأل أين نجد برنامجاً فنياً ثقافياً على قنواتنا التلفزيونية؟ وكلّ ما تقدّمه هذه القنوات عبارة عن مادة استهلاكية تجارية فارغة من أيّ مضمون حقيقي.
ونعود مع ياسين إلى البدايات حين يختصر رحلته الطويلة بالقول: «في البدايات كنت أحضّر نفسي للسفر إلى الخارج كي أدرس الموسيقى في الغرب ولو حصل ذلك لكنت خسرت نفسي ومجتمعي وحضارتي، ورغم أني أمتلك هوساً فيزيائياً إلا أنني لم أتمكن من متابعة دراسة الهندسة التي أرادها الأهل، وهكذا اتجهت إلى دراسة الموسيقى وبدأت مع البيانو ولكن من الصعب أن أحجز مكاناً في هذا العالم الذي يزخر بكبار الموسيقيين، لذلك سعيت للبحث عما نمتلكه من كنوز ومنها «السنطور» الآلة التي يقارب عمرها 3000 سنة وما حيّرني أنّ بلاد الشام تفتقر لوجود هذه الآلة، ومن هنا بدأت البحث لأجد هذه الآلة في إيران، ولكن «السنطور» المشرقي أو الشامي يختلف عن «السنطور» الإيراني أو الفارسي. وعملت على تطويره ليأخذ شكله الحالي، ويمكن القول إنّ «السنطور» هو الجدّ الأكبر للبيانو. باختصار أنا من دعاة تجذير الهوية الثقافة ولو من خلال نموذج عصري».