بديل الهزائم: الابتزاز!
د. وفيق إبراهيم
هذا أسلوب أميركي بدأ يجتاح بلداناً إقليمية تطبّقه معها على وقع هدير الدماء وتناثر الجثث، في محاولة مكشوفة للتعويض عن خسائرها في الميدان. ليس في الأمر أيّ مبالغة. وإلاّ كيف تنحدرُ السعودية من الإصرار على إسقاط الرئيس بشار الأسد لمدة سنين ست من دون أنّ يرّف لها جفن، أو تتعثر بحرفٍ، حتى كاد المتابعون يظنّون أنّ وزير الخارجية السعودي الجبير مجرد آلة كهربائية ناطقة بجملة وحيدة: «إسقاط الأسد»؟.. كيف تتزحلق إلى محاولة ضبط التدحرج الأردني نحو سورية ببريق المساعدات المالية وذهب النفط؟
فيما تكتفي تركيا بالجنوح نحو كردستان على هدير مياه دجلة. وتصّرُ واشنطن على تصعيد الابتزاز المالي «مقابل الحماية».. بما يؤدي إلى الاعتقاد أنّ أيام القرصان الدولي الأميركي العابثة بالأرض بمفرده باتت في نهاياتها.
لجهة السعودية فنموذج ابتزازها تقليدي.. بدأ بتقليص مساعداتها لعمّان بذرائع مختلفة، أخفتها الصدور.. وتسّرب منها أنّ للملك عبد الله الهاشمي حسابات سياسية خاصة به تجمع بين براعة «الوسيط» المحترف وأوامر المعلم الأميركي وطلبات «الشقيق» السعودي، و»همسات الجار الإسرائيلي» مع ربط بحقائق الداخل الأردني الذي يناهض أية أعمال كبرى لخدمة العوامل الخارجية، لكنه يستكين للتخفيف منها نتيجة للتحريض القومي والفئوي والديني. كما أنّه نتيجة لسياسات أردنية لإرضاء السعودية في الخلاف السعودي ـ القطري، أوقفت الدوحة مساعداتها للأردن ولم ترفع الإمارات مستوى دعمها، بما يسُّد العجز.. وكذلك فعلت الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا.. أمّا ما فاقم في سوء الأوضاع الاقتصادية في مملكة بني هاشم فسببُه الإقفال التام لحدودها مع كل من سورية والعراق بسبب الاضطرابات المندلعة فيهما إلى جانب تجذّر الأردن في الخندق الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي ومعاداة خطّ المقاومة. دفعت هذه الأوضاع المتردّية بالأردن إلى البحث عن بدائل في تركيا رفعت من مستوى الاستياء السعودي من مليكها بسبب العلاقات المتدهورة بين الرياض ـ وأنقرة على خلفية زعامة العالم الإسلامي ودعم أردوغان لقطر مؤسساً فيها قاعدة عسكرية تضمّ خمسة آلاف جندي مع رفع لواء الإخوان المسلمين. بالإضافة إلى تراجع السياحة ورفع الدولة دعمها عن عدد من السلع الأساسية، بالتوازي مع رفع الضرائب، فانفجر الشارع الأردني بشكل يشابه بدايات الانفجارات في تونس ومصر وسورية، مستمرّاً حتى الآن على الرغم من مسارعة ملكه إلى تحميل الحكومة المسؤولية، وإقالتها والدفع لتشكيل حكومة جديدة، لن تستطيع بدورها أنّ «تشيل الزير من البير» إلاّ بتدخلات اقتصادية خارجية.. كالعادة.
وفجأة وصل «النشامى» الذين أبوا تقديم أنفسهم كأصحاب «نخوة عند الضيق». وسرعان ما ينكشف الأمر بأنّه مجرد ابتزاز لإعادة «الإمساك الكامل بالأردن»، حسب دوره التأسيسي التاريخي القاطع بين بلاد الشام وجزيرة العرب. فهذا يخمدُ الذعر من صدور آل سعود. خصوصاً أنّ الاضطرابات في الأردن كان يفترض بها علمياً أنّ تؤدي إلى واحد من أمرين: أما الانفتاح الاقتصادي والسياسي على سورية والعراق، وأما سيطرة التيارات الإسلامية عليه بقيادة الإخوان المسلمين. ولا يقبل السعوديون لا بهذا ولا بذاك. مؤثرين استدعاء العاهل الهاشمي إلى لقاء سريع يضمّ أيضاً الإمارات صاحبة «الهمة» في مجازر اليمن.. ولن ينتهي اللقاء إلاّ بإقرار مساعدات مالية ـ سياسية تكفي ليسحق الملك الأردني الاضطرابات مطيحاً التيارات الإسلامية الحالمة بالوصول إلى.. السعودية أيضاً.
أما السؤال الذي يكشف الابتزاز فيتمحورُ حول أسباب ترك الأردن بلا مساعدات حتى الآن.. المنطق يقول إنّ هناك مَن أسّس المناخات المؤاتية للاضطرابات ليستغلها بإعادة الإمساك بالملك الهاشمي من.. قرنيه.
على مستوى العراق بالفضيحة أكبر.. حاولوا بداية ابتزازه بالتعددية المذهبية والعرقية.. لكن الحشد الشعبي والجيش العراقي، نجحوا في الانتصار على كل أنواع الإرهاب في معارك ذات طابع تاريخي جمعت إلى داعش كل إمكانات المذهبيين والعرقيين بدعم أميركي ـ تركي ـ سعودي.
..ومع استمرار السياسة الأميركية بابتزاز العراق حيناً بالتلاعب بنتائج الانتخابات الأخيرة التي جرت فيه وحيناً آخر بالعودة إلى الفتن التقليدية وبناء قواعد عسكرية، ذهبت السياسة التركية نحو أسلوب جديد بالابتزاز.. وهو أسلوب حجز المياه العابرة للحدود واستعمالها لتحقيق مطالب لأنقرة داخل العراق.
ابتدأ الابتزاز.. باكتشاف العراقيين تقلصاً في كميات نهرهم التاريخي دجلة المتدفقة من الحدود التركية إلى سورية، فشط العرب في العراق.. كما لاحظوا اتجاه النهر إلى الجفاف في بعض أنحائه مكتشفين في وقت متأخر كعادة العرب، أنّ تركيا بدأت بتعبئة سدّ جديد بنته لحجز مياه النهر في منطقة أليسو التي أخذ اسمه منها.
وعلا صراخهم كالعادة.. وهذا ما كان يترقبه التركي الذي قام بحركتين رشيقتين متتابعتين، معلناً في الأولى استجابته للعراق بإرجاء تعبئة السد شهراً واحداً، ومهاجماً في الحركة الثانية بقوات عسكرية حدود كردستان العراقية واخترقها بعمق ثلاثين كيلو متراً مستبيحاً الكرد والسيادة العراقية في آن معاً.
لم تكن ردود فعل العراقيين على هذا الاجتياح بقدر المتوقع.. مكتفين بإصدار بيان خجول يدعو أنقرة إلى احترام السيادة العراقية. ولم ترد تركيا بالطبع، لأنها تعرف أنّ الابتزاز المائي الذي تقوم به مع العراق، سلاح فعّال دائماً.. لكنه يبدو الآن أكثر نجاحاً لتخبط القوى السياسية العراقية في مسألة نتائج الانتخابات التي تتعرّض حالياً لمرحلة إعادة فرز أوراق المقترعين بطلب من المفوضية العليا للانتخابات التي يسيطر عليها الأميركيون. وهذا يعني أنّ تركيا استغلّت مياه دجلة ومرحلة إعادة تشكل السلطة في العراق لابتزازه في اختراق كردستان، كما تزعم. لكنها تهدف إلى أكثر من القضاء على نفوذ حزب العمال الكردستاني بي، كا، كا الذي كان موجوداً في سنجار ـ وانسحب منها ـ لتعيد محاولة بناء نفوذ تركي في كامل العراق. بمعنى أنها تريد العودة إلى مرحلة بدايات أزمات العراق، حين كانت أنقرة تبتزّ بالأسلوب المذهبي ـ الطائفي. وها هي اليوم تعاود ابتزازه واستضعافه للسيطرة على نفطة وإمكاناته ومنعه من التكامل الداخلي لأداء دور إقليمي.
هذا فيضٌ من فيضِ الابتزاز الأميركي الذي لم يرحم حتى لبنان حيث يحاول فرض شركات أميركية عليه للتنقيب عن نفطه وغازه، وإرغامه على القبول بتسويات حدودية مع فلسطين المحتلة من قبل «إسرائيل» مقابل استقرار هو بالتأكيد وهمي. إنها السياسات الدائمة للمستعمرين الذين يغادرون من الباب ويعودون من النوافذ.. لكن العتب هو على جامعة الدول العربية لصاحبها أبو الغيط وشركائه السعوديين والخليجيين التي تسدّدُ فقط على إيران، حسب رغبة ولي الأمر الأميركي، أما كان عليها فتح مؤتمرات طوارئ للدفاع عن مياه سورية والعراق التي تروي نحو 60 مليون عربي ينتشرون على مساحة نحو 700 ألف كيلومتر مربع.. أليس من واجبها حماية الأردن ولبنان أيضاً من الابتزاز الأميركي ـ الإسرائيلي ـ الخليجي.. وكم تمكّنت شعوب المنطقة من إنجاز انتصارات عسكرية فهي مستمرة بهذه الجهود رغم جامعة أبي الغيط المتهوّدة!