علامة تعجّب!
«كليلة ودمنة»، يعدّ كتاباً سياسياً بامتياز، فهو وإن كانت قصصه تدور على ألسنة الطير والحيوان، إلّا أنها أبعد من هذا أثراً، وأعلى بلاغة، وأعمق معنى في باطنها مما هي في ظاهرها، وقد أبدع ابن المُقفّع في اختيار أبطال قصصه بحيث جعلها رموزاً يمكن إسقاطها على البشر في المجتمعات الإنسانية، وكثير من الأحداث التي رواها لنا ابن المقفع تدور في الغابات وعند ضفاف الأنهار وفوق التلال وفي الجبال إنما يدور مثلها في البيوت والمؤسسات والوزارات وغيرها .
في قصة «الحمار والبردعة»، والحمار غنيّ عن التعريف، أمّا البردعة فهي ما يشبه السرج يوضع على ظهره، والقصة باختصار أنّ حماراً لبّاطاً كثير الأذى كان كلما دخل السوق رفس هذا وعضّ ذاك، وطرح كل من في طريقه أرضاً، ولم يكن الحمار يكتفي بذلك بل كان يتلف بسطات الباعة، ويكسر جرار الفخارين، ويأكل خضروات البائعين! وكان أهل السوق ينهالون على بردعته بالضرب المبرح، نافثين فيها جام غضبهم، فلما رأوا أنّ هذا الحمار لم يغير من طبعه المؤذي توصلوا إلى أنّ لا حل لهم مع الحمار إلّا في تغيير بردعته، لعلّ وعسى! ومن هذه القصة اشتقّ إخوتنا المصريون مثلهم العامي ظسابوا الحمار ومسكوا في البردعة»!
وعلى ما يبدو أنّ أهل السوق في كليلة ودمنة كانوا أجداداً لنا نحن العرب ومنهم ورثنا استراتيجية ترك الحمير والإمساك بالبرادع! يأتي أحدهم ليثبت وطنيته فيصفك بالخائن المتربّص بالوطن شراً فقط لأنّ قرار الحكومة لم يعجبك، وأنّ الشكوى من الضرائب الباهظة وغلاء الأسعار تآمر مع الأعداء، والشكوى من البطالة خيانة لله ورسوله، وانتقاد برنامج التعليم ومناهج التدريس يوازي التشكيك بالمصحف، رغم انّ التاريخ والتجربة والواقع يثبتون أنّ أكثر الناس حبّاً لأوطانهم هم أولئك الذين لم يرضوا بالواقع المزري للأوطان، وأنّه متى جدّ الجد، ووقع الفأس في الرأس كما هو حالنا اليوم لم يجد الوطن له غير أبنائه الذين اُتهموا بعدم حبّه، وأنّ الوطنيين الزائفين لا يمثلون البردعة مطلقاً فالبردعة يسهل تغييرها وإنما هم ثابتون لا تزيدهم العواصف إلّا ثباتاً متمسكون في مناصبهم وكراسيهم حدّ الموت يمارسون على المواطن أسلوب التذاكي وهوأول علامات السقوط طبعاً ليس سقوطهم من مناصبهم بل من عين المواطن ولا ندري إلى متى ستسمر حكاية البردعة وجلدها وتغييرها مع ثبات حاملها …
صباح برجس العلي