مناورات التشكيل… هرطقة تهدِّد الاستقرار
د. وفيق إبراهيم
الشائعات التي تطلقها بين الحين والآخر «مجموعات حبس النبض وقراءة ردود الفعل» التابعة لدوائر الرئيس المكلّف سعد الحريري، لا توحي باقتراب موعد إعلان حكومته الجديدة.
فالمعتاد هو «تشكيل» مرتكزٌ بالضرورة على «أوامر الخارج» من ناحية ونتائج الانتخابات من ناحية ثانية مع عصرهما في تركيبة واحدة، ببراعة لاعبي الخفة والسحرة.
.. منذ 1990، يجري تطبيق هذه القاعدة باستثناء مرة واحدة، استقال فيها الوزراء الشيعة. لكن رئيس الحكومة فؤاد السنيورة واصل الأعمال الوزارية مستجيباً بشكل كامل «لتعليمات» أميركية ـ سعودية، كانت تراهن على هجوم إسرائيلي كان قيد التحضير لإنهاء المقاومة.. ويجري تسليم لبنان لفئات تتعامل مع الخارج الإقليمي والدولي على نظرية «السمع والطاعة» واستنزاف الاقتصاد اللبناني، وتحويل البلاد مستعمرة خليجية وربما أكثر.. لذلك يبدو أنّ خطة مشابهة لمرحلة السنيورة هي قيد الأعداد بمستوييها الخارجي والداخلي. فهناك مراهنة على أنّ الحروب الجديدة المندلعة في جنوب سورية وأقسامها الشمالية من قبل الأميركيين والإسرائيليين والأتراك، وحروب اليمن في سواحله الغربية، وإرباك الوضع الداخلي في العراق، وخروج التعامل الإسرائيلي ـ الخليجي نحو العلاقات الدبلوماسية الكاملة بدءاً من البحرين.. من دون أنّ يرَّف جفن لرئيس السلطة محمود عباس المتمارض.. يعتقدون أنّ مستجدّات إقليمية على هذا النحو، من شأنها إنتاج حكومة لبنانية، للسعودية نفوذ كامل عليها، بما يجعلها فرعاً «لهيئة البيعة» عند آل سعود.
أما لجهة الداخل، فإن إحداث تغيير نوعي في حروب الإقليم لمصلحة الجانب الأميركي ـ السعودي ـ التركي ـ الإسرائيلي من شأنه إلغاء أدوار المقاومة، ليس إقليمياً فقط بل في لبنان. وهذا كافٍ لإعادة إنتاج «مرحلة السنيورة» وربما مرحلة 1982، التي امتطى فيما سياسيون لبنانيون دبابات إسرائيلية كانت تجتاح بيروت، واستقبلوا شارون في القصر الجمهوري وأمكنة أخرى.
أسباب هذا السرد التاريخي، كثيرة، لعل أهمها، التذكير بأن نجاح خط المقاومة في دحر النفوذ الأميركي ـ السعودي، في سورية والعراق ولبنان، انبثق من جهود عسكرية كبيرة أصبح صعباً طمسها ورفض التعامل مع نتائجها.
وما «القصف الجوي الغامض» الذي تدبّرت أمره على عجل «إسرائيل» بتغطية أميركية، إلا محاولة صغيرة لفرض تغيير على نتائج حروب الإقليم في جنوب سورية خصوصاً الجهات الحدودية في البوكمال ودير الزور.
داخلياً، هناك دفع قوي لتركيب ائتلاف قوى يجمع أولاً بين أحزاب المستقبل والقوات والاشتراكي والكتائب. وهذا ليس صعباً، على أنّ يجري استكماله بلقاء مصالح مع التيار الوطني الحرّ. وهذا تبتغيه لقاءات الحريري مع وزير الخارجية جبران باسيل في فرنسا وبرعاية مباشرة من «دوائر القرار الفرنسي» في قصر الأليزيه اللاهثة للعودة إلى بلاد المشرق الليفانت ، كما كانت تسمّيه في المرحلة الاستعمارية، على المستوى الداخلي. فالساحة اللبنانية متروكة على غاربها لسفيري السعودية والإمارات يجولان بين قصور السياسيين وكأنهما في شوارع المدن السعودية.. لا يكترثان لأيّ انتقاد ولا يعيران أيّ وزن لافتضاح أمرَيْهما.. يدأبان على تضييق مساحات الخلاف على الحصص الحكومية بين حلفائهما، وينظمان رحلات إعلان ولاء و«تطبيق» لسياسيين لبنانيين يحترفون الرقص على أكثر من حبل.
فهل هذا يكفي لاستيلاد حكومة يطالب الحريري بـ51 من وزرائها أيّ نحو 16 وزيراً من أحزاب المستقبل والقوات والاشتراكي وبعض المستقلين والكتائب.. ويتردّد أنه مستعدّ للقبول بـ15 وزيراً إذا أرضى هذا الأمر الرئيس عون والوزير باسيل.. فيستطيع بذلك عقد تحالف مع التيار الحر يتقاسمان فيه، الإدارة الداخلية للبلاد كما يشتهيان، أيّ على نمط صفقات البواخر والاتصالات ومراسيم التجنيس.. ويلبيان أيضاً مطالب الأقاليم السياسية في تحجيم دور المقاومة وصولاً إلى إلغائه بشكل كامل.. وهذا طرح خطير ومتكرّر يعتبر أنّ تسديد ضربة على رأس المقاومة في لبنان يؤدي إلى أمرين: الإمساك بلبنان وزعزعة كل المقاومات من سورية والعراق فاليمن. فهل هذا ممكن؟ عسكرياً، تحتاج هذه المجابهات إلى سنين من كرٍّ وفرٍّ.. ونتائجها لن تكون إيجابية، لأن مَن فشِلَ في سبع سنوات بعد تدمير وقتل وتنكيل بشعوب المنطقة، فلن يتمكن أن يلغي هذه الانتصارات المتجذّرة شعبياً، وجغرافياً وبالتالي سياسياً.
وهذا يدفع إلى التساؤل عن مدى قدرة لبنان على تحمل البقاء من دون حكومة أصلية، مكتفياً بحكومة تصريف أعمال، ذات صلاحيات محدودة وهامشية.. لبنان هذا الذي يجتاز أسوأ فوضى اقتصادية أوصلته إلى مشارف ديون بقيمة المئة مليار دولار، في بلد توقف فيه الاستثمار والسياحة غائبة بسبب الأوضاع الأمنية في الإقليم وحركة الترانزيت والنقل مجمّدة حتى إشعار آخر، بسبب رفض الحكومة اللبنانية التفاوض مع الدولة السورية لإعادة فتح الحدود بين البلدين للحركة الاقتصادية من لبنان إلى سورية والأردن والعراق. بما يُعيد إنعاش الطبقة الوسطى اللبنانية التي تحوّلت مجموعات من البائسين.
يشير هذا الأمر إلى أنّ لعبة الانتظار، فيها شيء من التعمّد، لجعل الطرف الآخر يخشى على الاستقرار فيتقدّم بتنازلات في التشكيل الحكومي، أو يجري دفع البلاد إلى الفوضى. فهل يُمكن تسليم إدارة البلاد لفئة سياسية لا تتورّع عن قذفها إلى المجهول؟
لجهة حزب الله وتحالفاته الوطنية والسياسية، فيقدمون طرحاً عقلانياً يوالف بين النتائج الفعلية للانتخابات والضرورات الميثاقية، فلا يقبلون بتهميشهم ولا يريدون إلغاء الآخر.. بما يؤدي إلى إنتاج حكومة تضّم كل القوى السياسية بحسب أحجامها من جهة وقدراتها الإقليمية من جهة أخرى. لذلك يرى هذا الحلف أنّه يستحق بالحد الأدنى عشرة مقاعد وزارية، تنقسم كالآتي:
6 مقاعد للشيعة باعتبار أنّ حزب الله وحركة أمل نالا مقاعد 26 نائباً شيعياً من أصل 27 نائباً. حتى أنّ النائب الخارج عن لوائحهم ينتمي إلى حليفهم فريد هيكل الخازن. وهذا يُعطيه حقاً دستورياً وميثاقياً.
كما أنّ تحالف الخازن ـ المردة يستحقّ مقعدين وزاريين على أساس أنّ الوزير الواحد يحتاج إلى ثلاثة نواب. أما إذا جرى تطبيق قاعدة النواب الأربعة فيستحقّ وزيراً واحداً. وهذا ينطبق على النواب السّنة المستقلين الذين يتراوح عددهم بين تسعة نواب أو عشرة. وفي كلا الأمرين يستحقون وزيرين بالحدّ الأدنى أما الحزب السوري القومي الاجتماعي فبوسعه المطالبة بوزير على الأقلّ.. فيصبح مجموع الحق الدستوري ـ الميثاقي لحلف حزب الله – أمل والقوى الوطنية، عشرة وزراء على الأقلّ في حكومة ثلاثينية وربما أكثر إذا حدث تغيير عند حزبَي القوات والمستقبل لجهة العلاقة بين عدد النواب وتمثيلهم الوزاري.
هناك إذاً عشرون مقعداً وزارياً يجب إيجاد طريقة لتقسيمها بين التيار الوطني الحر وحصة رئاسة الجمهورية وأحزاب المستقبل والاشتراكي والقوات والكتائب والأرمن والأقليات.
.. إنّ مَن يريد بناء دولة لبنان القوي لا يفتح أذنيه لهمسات مجموعات جسّ النبض وأوامر الإقليم، مترقباً لقاءات تريد السيطرة على الحكومة والرئاسة المقبلة للجمهورية. بما يؤكد استحالة تشكيل حكومة لا ينالُ فيها حلف المقاومة مع المستقلين والقوى الوطنية ثلثاً ناصعاً واضحاً لا لبس فيه.. وبذلك يقدّم قسماً من حقوقه الوزارية من أجل دعم الاستقرار والازدهار.
وإنقاذ لبنان يحتاجُ إلى جهود جماعية، لا تزال غير ناضجة بسبب «الأوامر السعودية» التي تواصل الاعتداء على كرامات اللبنانيين، والرغبات الأميركية المصرّة من جهتها على انتزاع موافقات مسبقة على ترسيم الحدود البحرية والبرية مع فلسطين المحتلة على أساس وضع اليد الأميركية الغربية على الغاز والنفط في لبنان.
فهل هناك وطنيّون يرفضون نظرية السمع والطاعة؟