واسيني الأعرج ينفض الغبار عن حقبة غامضة في حياة مي زيادة
مولود بن زادي
ليس هناك من ينكر ما حظيت به مي زيادة 1886 ـ 1941 من مكانة رفيعة، وشهرة ذائعة، وهي في أوجّ القوة والنشاط والعطاء. ولما تعثّرت وانهارت في آخر العمر، لم تلقَ من الأقارب والأحباب غير الجفاء والهجر. فتعالت صيحة من أعماق نفسها الجريحة اليائسة: «إني أموت، لكنّني أتمنّى أن يأتي من ينصفني». وبعد ما يناهز ثمانين سنة على رحيلها، ها هو واسيني الأعرج يأتي من خلال هذه السيرة، ليلبّي نداءها، ملقياً الأضواء على الحقبة الأخيرة الغامضة في حياتها، مبرزاً معاناتها وعذابها وصراعها وصبرها إلى آخر لحظة من عمرها.
نظرية المؤامرة
يصوّر هذا الكتاب «ليالي إيزيس كوبيا» في بدايته رحلة البحث عن المخطوطات الضائعة التي باشرها واسيني رفقة الباحثة الكندية اللبنانية روز خليل في الشرق الأوسط، وكيف تأتى له العثور عليها بعد سنوات من التنقيب والجهد الجهيد.
بعد ذلك، يروي لنا واسيني، بأسلوب مباشر مؤثّر، ما حلّ بمي زيادة ناطقاً بلسانها. فيصوّر بدقة وتفصيل كيف وقعت في فخ احتيال ابن عمها جوزف زيادة، الذي أحبته ووثقت به، فاستغل ذلك ليستكشف أعمالها وأموالها ويقف على سرائر مصالحها وشؤونها وعقاراتها، ليقتادها بعد ذلك من بيتها في مصر إلى بيروت ويسلمها إلى مستشفى العصفورية للأمراض العقلية. والعصفورية سجن قبل أن يكون مستشفى، مثلما جاء في تعبير واسيني الأعرج، زُجّت فيه بتواطؤ كل من عرفتهم. وضعوها فيه، فوضعوا بينها وبين السماء والناس الذين تحبهم حجاباً سميكاً، تشعر فيه أنها واهنة، غير قادرة لا على الحياة ولا على الموت. وتؤكد مي زيادة في هذه المخطوطة أنّ ما أصابها كان من تدبير جوزف، «ولم يكن ذلك عبثاً، فقد استولت العائلة على كلّ شيءٍ». ويتطوّر الأمر لاحقاً ليصبح مسألة وطنية: «الدولة نفسها تنوي رفع قضية ضد ابن عمك، وكل من تورط في إدخالك العصفورية». وتواصل مي زيادة الصراع والاحتجاج على المماطلة في كشف المؤامرة: «يماطلون في كل شيء، حتى في فتح تحقيق في ظروف إدخالي إلى العصفورية الذي تورط فيه بعض العمال والأطباء».
العنوان
اختار واسيني الأعرج عنواناً مثيراً للفضول تمثل في «إيزيس كوبيا»، وهو اسم مستعار غير معروف استخدمته مي زيادة في بداية مشوارها الأدبي، يجذب القارئ إلى الرواية. كما تضمن «ثلاثمئة ليلة وليلة» المستوحاة من «ألف ليلة وليلة»، ما يضفي عليه مزيجاً من الأصالة والعمق والإثارة.
مي زيادة بتفاصيلها كلّها
سعى واسيني الأعرج إلى رسم صورة مي زيادة بأدق تفاصيلها، متحدّثاً بلسانهاً، معرّفاً بها منذ الصفحات الأولى إلى أن اكتملت صورتها التي غلبت عليها الألوان القاتمة:
«أنا مي، ماري إلياس زيادة، ولدت في 1886، من خلطة دينية ومكانية غريبة، من أمّ فلسطينية أرثوذوكسية، نزهة معمر… وأب مارونيّ لبناني، إلياس زخور زيادة، من ضيعة شحتول». وكلما تقدمنا في القراءة، اطّلعنا على تفاصيل أخرى عنها وعن حياتها. فـ«مي زيادة كانت وحيدة والديها». وكانت تحمل الجنسية المصرية… ومن صفات هذه المرأة التي تبرز عبر صفحات الرواية الإرادة القوية والثبات والثقة في النفس، ما جعلها تؤكد للحكيم النفساني بحزم أنها لم تكن مجنونة وإنما صافية العقل. وبكل ثقة وثبات، تدعوه إلى إخضاعها إلى تجارب العقل للتأكد أنها مظلومة. من صفات هذه المرأة الشرقية أيضا الخجل. تقول عن نفسها: «فوجدتني في مجمع حافل أنا الصغيرة الخجولة».
الرواية أيضا تستحضر أحداثاً ومشاهد مثيرة في حياتها، كحادثة تكريم الشاعر خليل بك مطران بوسام سام. فلما تعذر حضور جبران لإلقاء خطبة، وقع الاختيار عليها. ورغم خجلها، تمكنت من إلقاء الكلمة ببلاغة عالية، فتفاعل الحاضرون معها. أيضاً محاضرة «رسالة الكاتب في العالم العربي» التي ألقتها في بيروت 1938، ومحاضرة الجامعة الأميركية في القاهرة 1939.
معاناة بلا حدود
الرواية تستعرض معاناة مي في مغارات مستشفى المجانين، وهي محاطة بمجانين حقيقيين، لا نصير لها فيه إلّا الجنون الحقيقي. وتصوّر لنا أيضاً صراعها لإثبات سلامة عقلها، وأن ما حدث ليس جنونا، وإنما شيء آخر اسمه طمع العائلة. احتجت بإضرابها عن الطعام ورفضها تناول الدواء لأيام متتالية. ومن نتائج الإضراب فقدان الوزن حتى أنها لم تعد تزن أكثر من 28 كيلوغراماً! فكان رد المستشفى على الإضراب الأكل القسري الذي مارسوه عليها بلا رحمة.
جفاء الأدباء وغدر الإعلام
وتكشف الرواية أيضاً كيف أنّ كل معارفها تنكّروا لها. فمي زيادة تلوم الأدباء المحيطين بها، الذين تخلوا عنها من أمثال طه حسين الذي وقفت إلى جانبه يوم حوكم بسبب كتابه في «الشعر الجاهلي» أو عندما طرد من الجامعة، والعقاد وهي من كانت حبيبته، وسلامة موسى، وغيرهم… وتصوّر لنا المخطوطة كيف «تنافست الجرائد على بهدلتها من دون أي خجل أو حياء أو حتى رحمة. الكل يتنافس على التفاصيل في ممارسات هذه المجنونة».
علاقة مي زيادة بجبران
اللافت أن واسيني الأعرج، من خلال هذه الرواية، يُدرَج في قائمة المحللين القلائل الذين شككوا في صدق علاقة جبران بمي زيادة. فمي زيادة، رغم تعلقها بجبران، رفضت أن تكون «مجرد رقم في حديقة نسائه» وقد أيقنت أن جبران لا يشبهها في شيء، فقد كبر في الحرية ومات فيها. لهذا لم تطالبه بأن يكون لها. فهي كانت تعلم مسبقاً أنّ أمرا كهذا مستحيل. وتعلّل مي فشل علاقتها بجبران بالاختلاف الثقافي بينهما: «كنتُ شيئاً آخر. تربية تشبه السجن، أحرقت كل عفويتي، امرأة شرقية أريد رجلاً لي وحدي. أموت وأحيا من أجله، وفيه وبه. لا أقبل الشريكة، أو الشريكات. الشراكة في الحب في صف الجريمة». وبعد موته، تناجيه بنبرة تنم عن خيبة وعتاب: «أنت لم تمنحني تلك الفرصة وسط جيشك النسوي إيميلي متشل، ميشلين، ماري هاسكل، جوزفين بيبودي، شارلوت تيلر، سلطانة ثابت، مارييت لوسن». وتتابع لاحقاً: «وجدتني فجأة في مدار رجل موزع بين نسائه وحبيبته الوحيدة الحرية، مات وهو يحضنها في أميركا. كانت له نساؤه وكانت لي أوهامي، لهذا توقفت». وأخيراً، اقتنعت مي زيادة بما نصحها به العقاد يوماً بأن تمزّق هذه الغشاوة الوهمية إذا أرادت أن تعيش.
الرحمة الإلهية محل تساؤل
الرواية تندرج ضمن خانة السرد الأطروحي، يثير الروائي من خلالها مسائل وجودية ويطرح أسئلة فلسفية، على رأسها قضية الإيمان والقدرة الإلهية والرحمة. فلماذا يسكت الله على الظلم، ولا يستجيب لعباده المتضرعين إليه ساعة الشدة على مرأى منه وهو على كل شيء قدير؟ وما جدوى دعاء من أعماق النفس المتألمة إن لم يكن يُسمع؟ وما هذا القدر المشؤوم المسلط على بشر ضعفاء؟ مي زيادة التي لم تنقطع عن الصراخ في غمرة الوحدة والألم، لم تكن تسمع صراخها إلا أشجار العصفورية الكثيفة، والعملاقة التي تنحني بسهولة كلما هبت عليها الرياح. فلم يعد بوسعها إلّا تقبُّل المصير المشؤوم والكف عن الصراخ وفقدان الأمل في أن ينقذها الله، بعدما فعل فيها البشر ما أرادوه على مرأى من جبروته وسلطانه. وها قد اتضح أن الناس من حولها أرادوا تعذيبها وقتلها على مرأى من الناس والله، وبتواطؤ معهم. فتنفجر صرخة من أعماق ذاتها: «كيف للرب أن يتواطأ مع القتلة» مضيفة: «أشعر أن الرب يعاقبني عن طريق الخطأ، فأنا لم أفعل ما يؤذي أحدا، ولا حتى ما يؤذيه». وما زالت المسكينة تصرخ وتتألم: «حرام يا ربي، حرام أن تنظر كمن يتسلى».
تضمنت هذه الرواية تصويرا دقيقا لحياة مي وأسرتها وعلاقاتها، ما لا يدع مجالاً للشك في مقدار الجهد والوقت الذي أنفقه واسيني في جمع المخطوطات وضبطها وترتيبها لإخراج هذه السيرة مفصلة ومكتملة. ويبدو من خلال صفحات هذه السيرة أن واسيني الأعرج استطاع أن ينفذ إلى أعماق ذاتها، فتسنى له أن يشخّص نفسيتها، وأحسن التعبير عن آلامها وانشغالاتها بلسانها، بأسلوب درامي قوي، لا يخلو من التكرار، بلا ريب، لأجل التأثير والإقناع.
الروائي، من خلال هذا الأسلوب والطرح، يؤثّر في نفس المتلقي، ويضعه في موقع التفكير ليس فقط في ما يكون قد دُبر لمي زيادة، وإنما أيضاً في أسئلة وجودية مثيرة للجدل. الرواية تثير أيضاً نظرية المؤامرة وإمكانية اتهام الفرد بالجنون والزجّ به في مصحّ عقلي، أو ربما تلفيق تهمة والزج به في السجن أو غير ذلك، لأجل تحقيق مكاسب وحماية المصالح. الرواية تثير، أخيراً، مسألة مصداقية العلاقات. فقد هجر مي، في ساعة الضيق، الأصدقاءُ والأقرباء، ولم يعد يزورها ويشفق عليها إلّا غرباء لا تعرفهم.. و«رُبَّ غَرِيبٍ صَادِقٍ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ قَرِيبٍ مُنَافِقٍ».