المملكة العربية السعودية الجديدة: أحكام «السياسة» لا «الشريعة»
روزانا رمّال
بكل أسف، ليست المرأة السعودية تلك التي تصنع الحدث اليوم، وليست جهودها هي التي أوصلت الى الحصول على أدنى حقوقها في أي دولة مؤسسية تحترم وجودها. فهذا الحق «المنتزع» من السلطات السعودية والذي يتمثل بالسماح لها لأول مرة في تاريخ المملكة بقيادة السيارة، لم يأتِ نتيجة «مرافعات» قانونية أو احتجاجات نسائية مؤثرة ليست قادرة «هي» أصلاً على تشكيلها او الاستفادة من منابر تطالب عبرها بحقها وهي لن تلقى بالتأكيد «دعم» أي وسيلة إعلامية محلية «تتجرأ» على كسر المحظور في انتقاد القانون المجحف بحقها.
«أن تأتي متأخراً خيرٌ من أن لا تأتي ابداً». ربما تحكم هذه العبارة المشهد اليوم، لكن كل ذلك لن «يذر» الغبار في العيون. فالحدث «سياسي» مصيري بامتياز. وقد تطلَب تخطي فتاوى وشروح مفصلة لرجال دين سعوديين ومراجع في الشرع الإسلامي «السعودي» لتحقيقه، وليس حدثاً يأتي بالسياق الطبيعي لتطوّر الزمن وحاجاته. فالمؤكد أو المفترض أن الشريعة لم تتغيّر وغير قابلة للتأويل وأن الزمن لن يغيّر هذه الشروح التي كانت تعتبر أن قيادة المرأة للسيارة يقع ضمن «الحرام» أو يؤدي إليه بالحد الأدنى ويساهم في زيادة «الفساد» في المجتمع وخروج المرأة عن طاعة ولي الأمر أو زوجها. وبالتالي إما أن اعتماد الدين كمصدر للشريعة في المملكة العربية السعودية قد «انتفى» كمسند، وإما أن يكون قد خضعت بعض فصوله لمساحة من الحرية فتمّت إعادة «التفنيد» في أصوله من جديد بمنظار آخر يتناسب مع العصر وإلا فإنه حدث سياسي بامتياز بقالب إنساني مرتجى. والمرأة السعودية بأي حال من الأحوال محقة بكل ما تطلب وتصبو إليه مثلها مثل أي امرأة عربية من دون الدخول في هذا الجدل المحسوم لصالحها.
قيادة السيارة ليست الحدث «الوحيد» أنما تأتي مدعومة بانفتاح «فني» غير مسبوق واختلاط بين الشبان والشابات في الأماكن العامة لمتابعة العروض الثقافية أو الفنية، ومنها ما بدأ ينتشر في «المولات» والمسارح وبدأ عدد بارز من الفنانين العرب بالتقاطر نحو المملكة العربية السعودية لحجز حفلات في هذا الصيف الذي تبدو فيه الرياض أرض الحدث بامتياز. فهل هذا خروج عن الشريعة الإسلامية أيضاً عن سابق تصوّر وتصميم؟ مع العلم أن الغناء والاختلاط يقعان ضمن دائرة جدلية واضحة إسلامياً وهما «محرّمان» عند أغلب المرجعيات لأسباب قد لا تكون منطقية في وقتنا الحالي. وربما فيها شيء من الصحة برأي البعض الآخر، ليصبح السؤال عن مدى تمسك المملكة باعتماد «الشرع» مادة حاكمة للسلوك العام باعتبارها المرجعية السنية الأهم في المنطقة والتي تحتضن في ربوعها مكة المكرمة وكعبة المسلمين.
الأكيد أننا «نودّع» المملكة العربية السعودية القديمة وندخل وإياها في اطار الخروج عن التقليد والحداثة «المطلوبة». والأكيد ايضاً ان العودة الى الوراء لم تعُد واردة مع سلسلة إصلاحات ثقافية تضرب في عمق بنيان المملكة «التأهيلي» الذي تعتمد الدول غالباً عليه في بداية التغيير فلماذا التغيير إذاً؟ وماذا وراء ذلك؟
وحدها الأحداث السياسية «المقلقة» هي التي أخذت الرياض، وبالتحديد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان نحو كسر المحظور. فالمملكة العربية السعودية التي تغرق في ظلام التطرّف الفكري والحقوقي صارت مضطرة بحسب إبن سلمان، لكي تخلع عنها هذا اللباس الذي صار يشكل خطراً عليها في الوقت الذي يتابع الشباب السعودي بحسرة كل مظاهر التطوّر المحيطة فيه بالدول العربية المجاورة بداية وصولاً إلى باقي دول العالم إضافة إلى يقين العائلة المالكة بأن شيئاً قد لا يحميها من ثورة شعب مقموع بعد مخاطر عاشتها دول مجاورة هي بالأساس أكثر انفتاحاً من المملكة، فكيف بالحال فيها؟
الحراك الشعبي الذي أخذ حيزاً أساسياً في المنطقة الشرقية لسنوات كان يشكّل خطراً كبيراً لإمكانية الامتداد فيما لو تطوّرت الأمور بشكل دراماتيكي ولا أحد قادر على ضبط مشهد كهذا أو حصره عند طائفة «الشيعة» عندما تتعلق المطالب بالإصلاح والتحديث لكل المواطنين.
المشهد العربي الضاغط أخذ يشكل تهديداً على المملكة ونظامها وبقائها. فتكاثرت النصائح من حول «الأمير الشاب» الآتي بنفس تغييري وأولها نصائح ولي عهد الإمارات محمد بن زايد الذي نقل رؤية بلاده الإصلاحية الى الرياض رغبة منه باستحواذ أكبر التفاف شعبي وشبابي حول الأمير الجديد الذي تجمعه به علاقة خاصة والذي سيتسلم عرش البلاد مستقبلاً وصارت سلسلة الإصلاحات هذه لائحة من ضمنها «قيادة المرأة «و»الانفتاح الفني والثقافي» وصولاً إلى إصلاحات اقتصادية وعزل أمراء و»احتجاز» ومحاسبة وغيرها.. ومن وراء كل ذلك تأييد أميركي لتثبيت حكم عائلة آل سعود وحمايتها من أي خضة قد تطيح بها، خصوصاً بعد تسلّم مريب لولاية العهد وسحبها من الأمير محمد بن نايف الى الأمير محمد بن سلمان ما كاد يؤدي إلى انقلاب داخل العائلة اقنعت واشنطن الرياض أن لولاها لكانت الامور في مكان آخر بالكامل. فخضع إبن سلمان الى رؤية الواعظين في الاستفادة من النفس الشبابي الذي يشكله الأمير ولتشكيل مساحة شعبية واسعة تحميه من أي مؤامرات داخل البيت الواحد وتحمي مستقبله امام الجيل الناشئ وهو «عصب الثورات» في العالم.
هذا الشعب الذي صار يجد في أبسط الحقوق حدثاً تاريخياً يؤكد على الوضع الكارثي الذي كان يعيشه، لكن استفادة إبن سلمان مما يجري كبيرة، خصوصاً في ظل أعباء وأضرار مباشرة سببتها إدارته لحرب اليمن كوزير للدفاع سقطت خلالها لأول مرة صواريخ على العاصمة استشعر السعوديون فيها الخطر ومشاعر القلق الجدي.
إصلاحات إنسانية ومستحقات متأخرة بقالب سياسي بحت يقدّم نموذجاً جديداً للمملكة ويودع العالم العربي معها عقوداً طويلة من التزمت فهل تنجح هذه الإصلاحات في تأمين الاحتضان المرجو لمستقبل الأمير الشاب والنظام؟