«فورين بوليسي»: كيف يحاول أردوغان كسب معارك عسكرية من أجل معركته السياسية؟
استهل الكاتبان توركر إرتورك، مؤلف ومعلق على قضايا الأمن القومي، وسليم سازك، طالب دكتوراه في العلوم السياسية في جامعة براون، مقالهما المنشور بمجلة «فورين بوليسي» الأميركية، حول معركة أردوغان العسكرية وكسبه من خلالها معركته السياسية بأن تركيا ستجري انتخابات مزدوجة في 24 حزيران لكل من الرئاسة والبرلمان، رغم أن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لا يزال المفضل، إلا أنه يواجه أكبر موجة معارضة منذ أول فوز انتخابي له في عام 2002.
الآن وقبل أيام من موعد الانتخابات، اكتشف أردوغان اهتماماً جديداً في استنزاف «مستنقع الإرهاب» في شمال العراق. وهذا يأتي في وقت غريب وعقد متأخر للغاية. أردوغان، الذي غض الطرف عن معسكرات حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل لسنوات، يقدم الآن عرضاً لمهاجمتها. ويرى الكاتبان أن ليس هناك الكثير الذي يمكن لتركيا أن تكسبه عسكرياً من خلال قصف الجبال القاحلة، لكن هناك الكثير ليكسب أردوغان سياسيّاً من خلال شن حرب تشتيت الانتباه.
قام الجيش التركي في ليلة 11 حزيران، بضربات جوية ضد 11 هدفاً على الأقل في قواعد حزب العمال الكردستاني في جبال قنديل، وجاءت الأنباء عن الضربات في الوقت المناسب لحشد مسيرات أردوغان في ذلك المساء في نيغدة، معقل قومي في وسط الأناضول، وبورصة، وهي منطقة صناعية ذات كثافة سكانية كبيرة تبعد 60 ميلاً عن إسطنبول، إن نفوذ أردوغان في هذه المناطق غير مستقر الآن بشكل متزايد، على سبيل المثال في انتخابات تشرين الثاني 2015، فازت بورصة بأكثر من ضعفي تصويت أقرب منافسيه، لكن في هذه المرة، كانت مسيرة حملته الانتخابية في المدينة نصف فارغة.
أصبحت هذه المشاهد في الآونة الأخيرة مألوفة لأردوغان، إن تحالف عداء الجبهة العلماني محرم إينجه، والقومية ميرال أكشينار، والإسلامي المعارض كارامول أوغلو، يشوه من حظوظه السياسية، كما هو الحال في الانكماش الاقتصادي للبلاد. في استطلاع حديث أجرته إحدى شركات الاقتراع الرائدة في تركيا، ذكر 51 في المئة من المستجيبين أن الاقتصاد هو الشاغل الرئيسي، وكان الأمن في المرتبة الثانية بعد أن كان 13.4 في المئة فقط.
ومن وجهة نظر الكاتبين أنه إذا كان أردوغان سيفوز، فهو يعلم أنه بحاجة إلى تغيير حسابات الجمهور. إذا استطاع أن يحقق الأمن في مقدمة أذهان الناخبين، فيمكنه استعادة الناخبين ذوي العقلية الاقتصادية الذين خسرهم أمام المعارضة، بالإضافة إلى إحباط الحزب الديمقراطي الشعبي الموالي للأكراد من الظهور بقوة، ويكاد يكلفه هذا بالتأكيد حزب البرلمان، وربما حتى طرده من الرئاسة، هذا هو ما يكسبه من حرب مشوهة: صد المعارضة، وحصوله على أصوات الناخبين، ومن ثم التمسك بالرئاسة الإمبراطورية التي كان يطمح إليها بشدة.
إن عملية قنديل هي أيضاً عرض درامي لكيفية قيام أردوغان بتحويل ثاني أكبر جيش للناتو إلى أداة طموحاته السياسية. ويذكر الكاتبان في مقالهما أن في حزيران 2015، بعد انهيار مفاجئ في الانتخابات، انهارت هدنة أردوغان مع حزب العمال الكردستاني، وساعده تجديد الأعمال العدائية على تحقيق فوز سهل في إعادة الانتخابات التي أجريت بعد خمسة أشهر. في تموز 2016، بعد الانقلاب الفاشل الذي يعتقد أنه تم تنظيمه بناء على طلب من حليفه الذي تحول إلى عدو، وهو رجل الدين المتمركز في بنسلفانيا فتح الله غولن، قام أردوغان بسحب نفسه من عملية درع الفرات في سوريا. إذ تعتبر من أسوأ الأزمات في حياته السياسية.
قبل ثلاثة أشهر من الاستفتاء الرئاسي في كانون الثاني 2017، استخدم أردوغان نفس الحيلة مع الاستيلاء على منطقة باب في سوريا، والآن يفعل ذلك مرة أخرى، وهذا لا يعني أن أياً من هذه العمليات لم يكن له أي ميزة للأمن القومي التركي، إلا أن توقيتها وتنفيذها يبدو أنه تم تحديده من قبل الحسابات السياسية لأردوغان أكثر من كونه ضرورة عسكرية.
ويقول الكاتبان إن بالنظر إلى الجهود التي بذلها أردوغان منذ فترة طويلة للسيطرة على الجيش، فإن أياً من ذلك لن يكون مفاجئاً، فابتداءً من أواخر عام 2000، بدأت تركيا حملة تطهير جماعي، والتي اتهم فيها تحالف من كبار الضباط العسكريين ووسطاء السلطة العلمانيين بالتآمر للإطاحة بالحكومة المنتخبة في البلاد، وأشار النقاد من وقت مبكر إلى انحياز العدالة في هذه المحاكمات الاستعراضية للنمط السوفيتي. وقد هاجمهم الخبراء والباحثون القانونيون على أنهم ملوثون بالأدلة المريبة. ومع ذلك، حُكم على مئات من المواطنين العلمانيين البارزين في تركيا، بمن فيهم ضباط مثل رئيس هيئة الأركان المنصرف، إيلكر باسبوغ، بالسجن لسنوات في أكثر من 12 لائحة اتهام مختلفة، أما جنرالات الجيش والبحرية والقوات الجوية فقد تم سجنهم أو إجبارهم على الخروج.
أشار عدد من النقاد بما في ذلك كاتبا المقال، أن في ذلك الوقت كان كل من غولن وأردوغان معاً، فحملة أردوغان ضد المؤسسة العسكرية العلمانية لم تكن لتنجح أبداً بدون غولن، كتب المدعون العامون والقضاة من غولن لوائح الاتهام وقررا القضايا، وأبلغت وسائل الإعلام الموالية لغولن بالأحكام. واعتاد أردوغان في الآونة الأخيرة على تسمية كل منتقديه بالـ«غولنست».
لم يحدث ذلك إلا في أواخر عام 2013 ، بعد أن أصدر المدعون العامون مذكرات توقيف بحق عشرات المشتبه بهم في قضايا فساد متعددة، حيث وجهوا الاتهام إلى من هو من دائرة أردوغان الداخلية بما في ذلك أولاده، وأربعة من وزرائه الأغنياء الموالين للحكومة، والمديرين التنفيذيين للبنوك المملوكة للدولة، والجدير بالذكر أنه عندما كانوا يطاردون حلفاءه العلمانيين، كان أردوغان أفضل صديق لغولن وعندما جاءوا له، أصبح أسوأ عدو لهم، ويتحدث أردوغان الآن عن تحالفه السابق مع العدو العام لتركيا، فتح الله غولن مع سذاجة متهورة، إنه يقدم عفواً وصفحاً تعسفيّاً، واعتذر عن خداعه، في الواقع، لم يكن باستطاعة أردوغان أن يستفيد أكثر من ذلك.
لا شيء من هذا حدث في السر، كان هناك العديد ممن حاولوا التحذير من ذلك، تركت القيادة العليا التركية بالكامل مواقعها حول المحاكمات، استقال الأدميرال نوسرت غانر بعد ذلك بعامين بشكل غير متوقع في احتجاج قبل أسابيع فقط من ترقيته إلى منصب أعلى في البحرية، كما فعل ذلك العديد من ضباط البحرية الآخرين، بما فيهم أحد كاتبي المقال وهو توركر إرتورك، فبالإضافة إلى أنه كاتب ومعلق على قضايا الأمن القومي، فهو أيضاً أدميرال متقاعد في البحرية التركية، فقد استقال من منصبه في عام 2010، بوصفه مشرفاً على الأكاديمية البحرية في البلاد، احتجاجاً على تطهير الحكومة من جانب حزب العدالة والتنمية من الضباط العلمانيين.
خارج الثكنات، نشر أمثال رئيس المخابرات السابق في الشرطة حنفي أفجي والصحفي أحمد سيك موضوعات حول كيفية تعاون غولن وأردوغان للقضاء على خصومهما العلمانيين، ليجدوا أنفسهم خلف القضبان. كل هذه التحذيرات سقطت على آذان صماء. ونشرت صحف أجنبية مقالات وتقارير ومنها هذه الصحيفة وهذا المقال بالذات، تكشف رموزاً إلى الثنائي الذي يروج للجيش التركي، في كل من الداخل والخارج، ظل العديد من المراقبين يهللون لغولن وأردوغان باعتقاد زائف أنهم كانوا يدفعون الجيش فقط للخروج من السياسة، بينما في الواقع كان هدفهم جعل الجيش أداة لأفضلياتهم السياسية.
وقد سمحت رعاية أردوغان لضباط غولن بالازدهار كما لم يحدث من قبل، عندما وقع غولن وأردوغان، واجه الضباط معضلة وهي البقاء والموالاة لغولن أو الاصطفاف إلى جانب أردوغان، إذا كانت عمليات التطهير بعد الانقلاب هي مؤشر على ذلك، فإن استيلاء غولن على الجيش التركي كان منتشراً. وقد تمت ترقية 63 من أصل 123 جنرالاً تم اعتقالهم لتورطهم في الانقلاب الفاشل بفضل الشواغر التي افتتحها تطهير الضباط العلمانيين، هذه الأرقام ليست سوى غيض من فيض، فهناك العديد من الضباط الآخرين المنتسبين إلى جماعات إسلامية أخرى، موالين لأردوغان فقط.
ضباط إسلاميون حاربوا ضباطاً علمانيين للسيطرة على الجيش التركي وفازوا، ثم انقلبوا على بعضهم البعض، وظهر أردوغان على القمة، ما تبقى الآن وراء ذلك هو أن العسكريين مدينون بالكامل لأردوغان بأن كبار قادتهم يديرون مهماته السياسية، كما كان الحال في الشهر الماضي عندما استدعى رئيس الأركان العامة، هلوسي أكار، للتحدث مع الرئيس السابق عبد الله غول عن المدى المحتمل في الانتخابات.
أثار جنرال آخر من فئة الثلاث نجوم جدلاً قبل بضعة أسابيع فقط، وبعد أن تم تصويره في تجمع حاشد شاركه التصفيق، إذ قام أردوغان بطرد منافسه، محرم إينجه، من خشبة المسرح. ومن وجهة نظر الكاتبين فهم يريان أنه من الصعب على أي جنرال اتخاذ قرارات تستند فقط إلى الحقائق وحسابات ساحة المعركة في ظل تسييس جهاز الأمن القومي التركي حتى النخاع. لا يمكن لأي جنرال الحكم على أفضل ما يمكن لتركيا دون النظر أيضاً في أفضل ما يكون لأردوغان.
هذا هو السبب في أن الجيش يسير جنباً إلى جنب مع خطط أردوغان، فلم يعد مقر حزب العمال الكردستاني هدف أردوغان في أحدث غارة له في جبال قنديل، وجود القوات المسلحة لحزب العمال الكردستاني هناك هو في حده الأدنى على أقصى تقدير، فقد تحركت معظمها منذ فترة طويلة شرقاً، إما إلى أراضي فرعها السوري، أو إلى أراضي وحدات الحماية الشعبية في شمال سوريا، أو إلى جبال سنجار على الحدود العراقية السورية، ويقال أيضاً إن بعض وحداتها قد تراجعت إلى إيران.
هناك أيضاً عامل إضافي للولايات المتحدة في سوريا، إذ كان الأكراد في طليعة قتال واشنطن ضد الدولة الإسلامية، وتتحدث إدارة ترامب بحزم عن وقف الدعم للمقاتلين الأكراد، لكن ليس من السهل قطعها، ولا يزال العديد من الأهداف الاستراتيجية للولايات المتحدة غير مستحق، ولا يزال الأكراد يشكلون جزءاً لا يتجزأ من خطط واشنطن لتحقيق تلك الأهداف، هذا ليس لتأييد طريقة تعامل أميركا مع الحرب الأهلية في سوريا أو القول بأن مخاوف أنقرة بشأن حزب العمال الكردستاني والقوة المتنامية لشركائها السوريين، وتداعيات كردستان المتمتعة بالحكم الذاتي على الحدود الجنوبية لتركيا ليست متينة. على النقيض من ذلك، كان من الأفضل أن تتوقّع الولايات المتحدة من تركيا أن تضع الكثير في صفوف السوريين المنتسبين إلى حركة استقطبت عشرات الآلاف من الأرواح في حملتها من أجل الانفصال عن تركيا، لا يمكن لأي سياسي، ولا حتى أردوغان، أن يوجه ذلك إلى الجمهور التركي دون توقيع مذكرة الوفاة السياسية.
في الوقت نفسه، يحتاج المرء إلى مواجهة الحقائق، لن تتخلى واشنطن عن الأكراد لمجرد أن أنقرة طلبت ذلك، ولن يتخلى الأكراد السوريون عن تطلعاتهم لإقامة دولة عندما يتمتعون بالفعل بحكم ذاتي فعلي في أكثر من ربع الأراضي السورية، والسيطرة على العديد من حقول النفط الرئيسية في مناطق مثل تاناك وعمر وشادادي والسويداء.
وعلاوة على ذلك كانت الحكومة متفاخرة جداً بشأن عمليتها الوشيكة على قنديل، حتى لو كانت قوة حزب العمال الكردستاني بكاملها في جبال قنديل، لكان لديهم ما يكفي من الإنذار المسبق للخروج. مضى أكثر من أسبوع منذ أن أثار رئيس الوزراء بينالي يلدريم، إمكانية القيام بعملية عسكرية، أما في الأسابيع الماضية، أردوغان نفسه، فضلاً عن العديد من وزراء الحكومة الآخرين، فكروا علانية حول هذا الموضوع.
لو كان أردوغان جاداً بشأن التشدد على حزب العمال الكردستاني، لكان قد ضرب حلفاءهم في الأماكن التي يهمها حقاً، في أراضيهم السورية إلى الشرق من نهر الفرات. وبدلاً من ذلك، فقد قام بتفجير الجبال القاحلة، مع التأكد من أن الكلمة تنتشر على أوسع نطاق ممكن بقدر ما يهاجم قنديل، وهو اسم ما زال مرادفاً لحزب العمال الكردستاني في أذهان كثيرة، وذلك لأن النجاح الذي يسعى إليه سياسي وليس عسكرياً، ويختتم الكاتبان مقالهما أن أردوغان يهتم بالفوز في صناديق الاقتراع أكثر من اهتمامه بالفوز في ساحة المعركة.