مهدي منصور: التكثيف ميزة الشعر عن سائر أنواع الأدب… و«فهرس الانتظار» أكثر دواويني حرارةً

رنا صادق

نجح الشاعر مهدي منصور بإيقاعنا في فخّ حداثة قصيدته ذات الشكل الأشبه بقصيدة النثر والأسلوب المألوف فيها، إلا أنه لا يُخفِ أن محتوى نصوصه في ديوانه الأخير «فهرس الانتظار» تقوم على الوزن والتفعيلة، إضافةً إلى التكثيف المعنوي الذي لا بدّ منه في أيّ قصيدة عموماً. فالتكثيف في المعنى ليس حكراً على نوع محدّد.

وهنا، لا بدّ من الإشارة، إلى أنّ الشاعر مهدي منصور خطا خطوات كبيرة باكراً في مشواره، لكنّه تفوّق على نفسه في تحقيق مبتغاه، وأوصد باب الكتابة الإبداعية بجدارة.

مهدي منصور شاعر لبناني، حاصل على دكتوراه في الفيزياء ومحاضر في مجالَي التربية والعلوم. حائز على ذهبية برنامج «المميزون» عام 2003. وحائز على جائزة لجنة تحكيم برنامج «أمير الشعراء» عام 2008، وجوائز أدبية أخرى. وصدرت لة ثماني مجموعات شعرية.

«البناء» التقت أمير الشعراء وإن كان لا يحبّ الألقاب، وتعرّفت إلى مكنونات كتابته، خصوصاً بالنمط الجديد الذي استخدمه في ديوانه «فهرس الانتظار».

فهرس الانتظار

اختار الشاعر مهدي منصور عنواناً ليس مألوفاً يحمل معانٍ كثيرة، أبعدها قريب. كلمتان أبتا إلا أن تثيرا حشرية القارئ للولوج في متاهة هذا الفهرس.

من جهته، يقول منصور عن ذلك: كنت أحاول البحث عن خيمة لقصائد كُتبت في مراحل مختلفة. خلال هذه المراحل كنّا ننتظر بلاداً تليق بتضحياتنا ووطناً يليق بأحلامنا وحبّاً أيضاً يليق برغباتنا وآلهة تنظر بعين الحبّ إلى أجنحتنا وآلامنا وشهدائنا. من هنا، فهرستُ هذه الانتظارات، لقد انتظرت طويلاً وراء الأبواب المغلقة والأقفال الصدئة التي لم تُفتح والتي تخبّئ وراءها مستقبلاً ما… لذلك كان عنوان «فهرس الانتظار».

المفاتيح قبلة… رغبة أم اندفاعاً

يلفت عين القارئ عند مدخل الديوان تلك المفاتيح المنسدلة كستارةٍ ناعمة على أفرشة الكلام. تلك المفاتيح حملت عناوين عريضة تمايلت في كلّ مفتاح أنغام القصائد. فهذه الدخلة تسمح للقارئ بحسب اهتمامه ورغباته، أن يختار مفتاحه الأقرب إلى ذاته. فمن لاقى في مفتاحه الحبّ سرّاً وأماناً يقلّب صفحات الديوان على تلك الجزئية، ومن طار منه الأمل لكنه يبغى استرجاعه يذهب رأساً إلى قصائد منصور عن الأمل.

يقول منصور عن لك: المفاتيح بالنسبة إليّ هي رهبة العبور، فالمفتاح هو الوسيلة الوحيدة لاختراق الأبواب الموصدة. المفاتيح هي محاولة بريئة جداً للكشف والاستشراف، وأيضاً لمحاولة فكّ ألغاز الأبواب الصدئة التي سبق وأنت تحدثت إليها. لذا، المفتاح هنا قد يعني حيناً العودة، وطوراً مفتاح الأمل أو مفتاح الحبّ. وبالتالي، المفتاح هو القبلة حيناً والرغبة حيناً آخر والاندفاع أحياناً أخرى.

وردّاً على سؤال عن الرابط ما بين «أناه» وأبيات القصائد، قال: في دواويني السابقة، أي ما قبل «فهرس الانتظار» كنت ألاحظ أمراً ما، والآن بعد قراءة الأعمال السابقة، لاحظت أنني أكتب الشعر وكأنني أكتبه عن سواي، وأتعاطى مع الموضوعات من خارجها وأكتب…

وتابع: أكتب عن الأوطان الحبّ والانتصارات وكأنني أطوف حولها لا ألج مخاضها. فأنا أفصل بين نفسي الشاعرة ونفسي الحقيقية. لذلك حلّل أحد الأصدقاء شعري وهو أحد المتخصّصين في علم نفس اللغة، ولفتني تحليله حول هذا وأكّد لي ذلك. اذ كنت أقول في إحدى الأبيات:

«تهادن بي وتخطئني المنايا

لتأكل من جراحاتي الرزايا

تعبت على أناي هوىً وشعراً

وهذا الليل يتعبني أنايا

فأسأل والدفاتر وجه عمري

قصائد مَن، جراجي أم رؤايا؟!

وأمشي في القصيدة باتئادٍ

كأن الشعر يكتبه سوايا

لقد دقّ الرحيل بنان كفّي

ويبّسني الجفاء فصرتُ نايا…».

وأضاف: لكن اليوم، في ديوان «فهرس الانتظار» كان قراري واضحاً. أن لا فرق بيني وبين القصيدة، وأصبحت جزءاً من هذه القصيدة حتى ولو جرحت نفسي لا سال دمي في عروق أبيات القصيدة الشعرية.

التكثيف ميزة الشعر

اعتمد منصور القصيدة القصيرة في «فهرس الانتظار»، السهلة والبسيطة التي تحمل معانٍ مكثفة التي تتواجد في قصيدة النثر، ويقول عن ذلك: من منطلق حداثي، قرّرت أن أضمّن ديواني الأخير قصائد قصيرة لكنها ليست قصائد نثر. باستثناء المقطوعات الثلاث الأخيرة هي قصائد قصيرة أو متوسطة الطول لكنها موزونة ومفعّلة، وإن كتبتها يبدو أنها قصيدة نثر.

ويتابع: أنا أتميز عن سواي بكتابتي هذا النوع من النصوص العمودية والمفعّلة والموزونة والمقفاة أيضاً. طبعاً القافية ضرورية في النصوص العمودية، لكن ثمة تفعيلة موجودة إن بدا النصّ نثري.

وعن موضوع التكثيف وضغط المعاني يقول: القصيدة بالنسبة إليّ هي الكبسولة لو وضعناها في البحر تستطيع أن تتحلّل، فإن بدا النصّ صغيراً أم كبيراً هذا لا يعني أن الكلمات تتوقف عند حدود الكلمات القليلة أو الأسطر المعدودة. بالنسبة إليّ أنه في المعاني كلّما اتّسعت الرؤية ضاقت العبارة وهذا الكلام لمحمد بن عبد الجبار بن الحسن النفري أحد كبار الشعراء الصوفيين. لذلك، نعم هناك تكثيف وهذا أمراً ليس سهلاً وهذه ميزة الشعر عن سائر أنواع الأدب الأخرى من المقال والرواية.

العاطفة الشديدة تفقد السيطرة على النصّ والإيقاع

وحول العاطفة التي فاضت بها قصائد منصور في «فهرس الانتظار» يقول: الحقيقة أن العاطفة جيّاشة جداً وعالية ودافئة ديوان «فهرس الانتظار»، وأحياناً متهورة وقد تكون نقمة عليّ لأنه كلّما اشتدت عاطفتي في لحظات الكتابة كلّما فقدت السيطرة على النصّ والإيقاع، والسيطرة أيضاً على تقنيات الكتابة. لذلك مقارنةً بدواويني السابقة، يرى البعض أنني تراجعت من حيث المعاني الفكرية والفلسفية والوجودية وتقدّمت عاطفياً، لكني أقول لهم هذه عودة إلى أثاث الشعر التي أشتاقها وفقدتها والتي مرّت سنوات من دراستي الجامعية في الدكتوراه في الفيزياء، وقد أخذتني المادة إلى حدود الكتابة بلغة المادة أيضاً. نعم، اشتقت إلى العاطفة وأنا متيقن أن «فهرس الانتظار» هو أكثر دواويني حرارةً من هذه الناحية.

الاستعارات دروع… والكنايات إسقاطات في القصيدة

أفرط منصور في استخدام الكنايات والاستعارات في وصف الحالة أو المكان، حيث يقول عن ذلك: اتكأت على الاستعارات والكنايات لأن الأوطان التي نريدها توجد في مخيلتنا، لذلك نستعريها من الخيال إلى الواقع، كما الحبيب الذي نريده نكنّي عنه في مشتهياتنا ورغباتنا. ما أردت قوله حقيقةً أن الشاعر الذي يكتب نتيجةً الفقد والحسران والوحدة ومواجهة المصير باللحم العاري لا بدّ أن يستعير لغةً تشبه الدروع التي تقيه من حرّ الصدمات المتكررة والخسارات التي لا تنتهي. الاستعارة في اللغة هي أيضاً محاولة لاستعارة القوة في مواجهة الحياة، والكناية في النصوص ما هي إلا اسقاط لغوي على الورق للكنايات التي نعيشها بشكلّ يومي. فنحن نتكنّى بأجزاننا، نتكنّى بأحلامنا، لذلك يبدو ترجمة لهذا الموضوع الأسلوب البلاغي جليّاً في هذا المعنى.

وختم قائلاً: إذا كان ولا بدّ من اختيار قصيدة من ديوان أحبّه كلّه «فهرس الانتظار» سأختار قصيدتين الأولى واسمها «نجم الشمال»، التي كتبتها للجنوب سبق وكتبت سبع دواوين شعرية قبل هذا الديوان وليس فيها قصيدة واضحة عن الجنوب، فقد كتبت عن كلّ شيء إلا الجنوب، لذلك في هذا النصّ حرارة وتدفق وانفعال هائلين.

وأضاف: العرب في القدم كانوا يعرفون الاتجاهات من الأنجم، وكان هناك نجم مهم وواضح وجليّ اسمه «بولارس»، هذا النجم هو «نجم الشمال»، فلو رأينا هذا النجم وأخذنا المسير باتجاهه فنحن نسير جهة الشمال. أمّا أنا، فيوماً ما سأعود إلى الجنوب و«بولارس» سيكون في الجهة الأخرى من السماء، سيحطّ على ظهري لأنه ورائي لذلك سأصل إلى الجنوب مُنحنِيَ الظهر على ترابه لأنه على ظهري يحطّ نجما الشمال. أحبّ هذا النصّ فيه عتب على المدينة وبيروت والحياة التي تبعدنا عن ترابنا الأصل. أمّا النصّ الآخر الذي هو قصيدة «النهر»، وأكشف للمرة الأولى أن هذه القصيدة كتبتها عن نفسي، عنيت بالنهر نفسي، وأنني النهر الذي أراد أن يكون ماءً فانتهى سيفاً يشقّ طريقه ويجرح الأرض من دون قصد، وكلّما اشتهت الوردة قطرة ندى كان هوو النهر لأنه لم يستطيع أن يرضي الوردة لأنه كان أكثر تدفقاً من الحنين الذي تطلبه الوردة، وأكثر ذكورية من الهدوء الذي يطلبه العالم . في هذا النصّ أيضاً أقول وأنا يتيم الذكريات، فكلما حاولت «طيف الأمس أصبحت الغد»، فالنهر لا يسطيع أن ينظر إلى الوراء، لا يستطيع التكلم مع الأشجار التي تحيط به، النهر لا يتوقف لبرهة عن جر حورٍ أو صفصاف يستقي منه ولا أي شيء آخر. هذا النهر هو حياتي التي لا تتوقف ولا تعطيني فرصة في النظر إلى الوراء.

صدر لضيفنا الشاعر: «متى التقينا» ـ 2004، «أنت الذاكرة وأنا» ـ 2007، «قوس قزح» ـ 2007، «كي لا يغار الأنبياء» ـ 2009، «يوغا في حضرة عشتار» ـ 2010.

مختارات من دواوينه

يوماً سيذروني الجنوبُ ثرىً على تلك التلالْ…

يوماً سيحملني كلاماً في قراه النائيات…

ووردةً بين السلالْ

يوماً سيرسلني قصائد للنساء العاشقات مع المكاتيب البريئة، والنسائم، والرجالْ

يوماً سيسكنني العرائش كي أصلّي في الكؤوس في العنبْ

يوماً سيسمعني أغنّي:

يا جنوب ثقبتَ أوصالي بصبّار العتبْ…

فغدوتُ ناياً من قصبْ …

يوماً سيعذرني الجنوب…

لأنّ جرح الروح أبيضَ لا يرى

ولأن وعدَ الحب وجدٌ لا يُقالْ

سيَرى على قدميّ أخبار الطريق دماً وشوقاً وارتحالْ…

ولشدّ ما وجّهت وجهي للجنوب…

أعودُ منحنياً إليه

لأن في ظهري الصغير

يحطّ رحاله نجم الشمالْ

 

مدنُ الشمال كوتْ شبابيَ يا جنوبُ…

مدنٌ تغصّ بعاشقيها مثل كلّ الفاتناتِ،

مدنٌ نراها في عيون الحالمين وفي مناظير البنادق كيف يسكنها الغريبُ

مدنٌ إذا جادت على وجهي ببارقةٍ،

تملّكني الشحوبُ…

 

من أين تأخذنا البلاد إلى الرحيل؟

سألت جدّي في وصيّته الأخيرةِ

قال ما تاهت خطى من جال في دمهِ

ودلّته القلوبُ…

فصرخت يا درب الجنوبِ إلى القرى إحمل دمي هذا الصباحِ

على مقدّمة الجليل بيوت أهلي

والبيوت قصائدٌ كتبتْ لسيرتها الحياة فلا تشيبُ،

وتظلّ تشبهنا البيوت

فلو كبرنا قوّست جدرانها لتظلّ صالحةً لسند ظهورنا معنا…

ونحفظها كبيت الشعر مهما بعاد بيننا المنفى،

وخانتنا الدروبُ…

*********

لا البحرُ آخرة الرحيل ولا المدى

ما أجمل الأحلام أنْ ضاعت سدى

 

إن يقطفِ الموتُ النجومَ شهيّةً

فأشدّ موتاً أن تعيش مؤبّدا

 

وخُلقتُ نهراً،

بعض حزني أنني

حين اشتهيت الورد،

ما كنت الندى

 

لا ذنبَ لي غير اجتراح طريقتي

فكّرتُ ماءً،

وانتهيتُ مهنّدا

 

ما طاب لي كونُ الجراح سجيّتي

أقسى من الطعنات أن تتعوّدا

كهلٌ وما تعبت خطاي،

وفي فمي ثغر الغمام يذوب

حتى أولدا

 

طفلٌ

ووجهي منذ أوّل دفقةٍ في النبع،

أصبح كالحياة مجعّدا

 

ظهري تقوّس والغصون تصيح بي

كنتَ الضلال الصِرف

إذ كنتَ الهدى

 

لا لهفتي نارٌ

ولا شغفي لظى

ما أحوجَ الأنهار أن تتوقّدا

 

سعياً لأفهم سرّ نفسي

لم أزل أجري وراء الماء

كي نتوحّدا

وأظلّ عطشاناً،

يسيل فأقتفي

يا واردين الماء لستُ الموردا

 

وأنا المكوّن في العيون،

أصابني كيد الحكاية:

أن تسودَ فتُحسدا

 

وأنا يتيم الذكريات،

فكلّما حاولتُ طيف الأمس

أصبحتُ الغدا

 

لو كان لي عنقٌ لألمح جثّتي

عمراً بصفصاف الحكاية مُغمدا

 

أو كان لي ماضٍ لأذكر صهوتي

مجروحةً كالريح إن خفق الصدى

 

 

أو كان لي سكنى الضفاف

فأعتني بي،

إنّ نصف الموتِ أن تتجدّدا

 

أو كان لي ملحٌ

بكيتُ ضحيّتينِ: لضفّةٍ مدّت إلى الأخرى يدا

 

وأنا المرايا

ما أشدّ عماءها ألّا ترى،

ويُرى بها وسعُ المدى

 

وأنا المسيّرُ،

منذُ واروْني الثرى

أقسمتُ باسم الأرض ألا أرقُدا

 

يا مانحي المُتع العظام

خلقتني حرّاً

بأغلال الرحيل مقيّدا

 

فامنح مداك لمن عصاك،

ومرّةً ردّ الحنين إليّ

أو ردّ الردى..

 

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى