«عبر الواقعيّة» من الحركات الأدبيّة الكبرى في القرن الحادي والعشرين
ليست «عبر الواقعية» Transrealism خيالاً علمياً، ولا واقعية، لكنها تحلِّق في المنطقة القلقة بينهما، وفي هذا المقال لدانيال والتر في صحيفة «غارديان» البريطانية عرض لمزايا الأدب عبر الواقعي، مروراً ببداياته وأفكاره الفريدة وبحثه عن الإنسان الطبيعي.
تدعو «عبر الواقعية» إلى نهج في كتابة الروايات يضرب بجذوره الأولى والأساسية في الواقع إذ ترفض البناءات المصطنعة مثل الحبكة والشخصوص النمطية. «الماسح الضوئي المعتم» إحدى أشهر روايات فيليب كيه دِك وأكثرها إثارة للجدال، كتبت عام 1973 ولم تنشر إلاّ عام 1977، لتصبح العلامة الفاصلة بين روايات دِك في المرحلة المتوسطة من حياته المهنية التي كانت تنتمي بوضوح إلى أدب الخيال العلمي ومنها «الرجل في القلعة الشاهقة» و»هل يحلم الآليون بالخراف الكهربائية؟»، وروايات المرحلة المتأخرة لديه التي قيل إنها هجرت الخيال العلمي وتركته وراءها. ومثل روايتي «فاليس» و»الغزو السماوي» اللتين صدرتا بعدها، كانت رواية «الماسح الضوئي المعتم» عبارة عن قصتين اصطدمتا في قصة واحدة، وهي عمل ينتمي قليلاً إلى الخيال العلمي ويقوم على دواء مدمر للعقل، مثلما تقوم على وصف سيري واقعي صارم للزمن الذي عاش فيه دِك وسط مدمني المخدرات.
هذه الرواية أيضاً، بحسب ما يرى الكاتب والناقد وعالم الرياضيات رودي راكر، أول عمل في حركة أدبية أطلق عليها «عبر الواقعية» transrealism في مقالة نشرها عام 1983 تحت عنوان «مانيفستو عبر الواقعية». وبعد ثلاثة عقود من كتابتها تبقى لمقالة راكر صلة وثيقة بالأدب المعاصر مثلما كانت في زمنها. وفي حين أن راكر كتب مقالته في وقت شهد انفصالاً واضحاً بين أدب الخيال العلمي ومتن الأدب، بات صعباً اليوم بصورة متزايدة الفصل بين الأدبي والخيال العلمي، ويبدو في مطلع القرن الحادي والعشرين أن الحركة الأدبية التي بشَّر بها راكر باتت تؤتي ثمارها.
تدعو «عبر الواقعية» إلى نهج في كتابة الروايات يضرب بجذوره الأولى والأساسية في الواقع، إذ ترفض البناءات المصطنعة مثل الحبكة والشخوص النمطية، لحساب الواقعي من الناس والحوادث، المستمد من حياة الكاتب مباشرة. غير أن الكاتب يغزل في هذا النسيج الواقعي فكرة واحدة فنتازية بصورة مستحيلة، غالباً ما تكون مستلة من متن الخيال العلمي أو الفنتازيا أو الرعب. وهكذا فإن الكاتب عبر الواقعي، إذ يصف بالتفصيل الواقعي مدرسة ثانوية أميركية، سوف يدمّر وصفه هذا بإقحام كائن فضائي يحلق في طبقه الطائر، مانحاً قواه الخارقة لشاب كان ليكون عادياً من دونها.
من المفيد أن نسرد قليلاً من الأعمال التي لا تصلح «عبر واقعية» لنفهم ما كان يرمي إليه راكر على نحو أفضل. فأعمال الفنتازيا أو الخيال العلمي الرائجة مثل «هاري بوتر» و»ألعاب الجوع» ينقصها القدر الكافي من الواقع لنناقشها بوصفها أعمالاً عبر واقعية. والحكايات بادية الواقعية، التي تحتوي في بعض الأحيان على عناصر فنتازية، مثل الآلات التكنولوجية الخارقة في روايات الجاسوسية المثيرة، لا تصلح أيضاً أعمالاً «عبر واقعية»، لأن حبكاتها وشخوصها النمطية بعيدة جداً عن الواقع. إن «عبرالواقعية» ترمي إلى مزيج شديد التحديد من الواقعي والفنتازي، تحقيقاً لنص شديد التحديد يبدو أنه أصبح بالغ الأهمية للقراء المعاصرين.
قائمة الكتاب «عبر الواقعيين» المحتملة فاتنة ومثيرة للجدال في الآن نفسه، مارغريت آتوود في «حدوتة الخادمة» و»أورِكس وكريك» وما أعقبها.
ستيفن كينغ، في أحسن حالاته، حينما يصف أميركا الطبقة العاملة، ناثراً فيها أهوالاً مما وراء الطبيعة، إلى جانب توماس بنتشن، دون ديليلو، ديفيد فوستر والاس، وغيرهم من كبار الأسماء في الأدب الأميركي.
إيان بانكس في روايات مثل «الذرة» و»الجسر»، جيه جي بالارد بكونه واحداً من كتّاب كثر أتوا من أدب الخيال العلمي إلى ريادة الأدب «عبر الواقعي»، ومارتن أميس في «سهم الزمن»، وآخرون.
وُصف انتشار الفنتازي في الأدب المعاصر أحياناً بكونه انتقالاً للخيال العلمي إلى متن الأدب، لكن أدب الخيال العلمي لا يزال في أكثره على حاله التي كان عليها دائماً، إذ يقدم حكايات فنتازية عديدة للقراء الراغبين في تمضية وقت بعيداً عن الواقع. ومن المؤكد أنه ليس ثمة نقص في الروايات الواقعية التي تنتشر في لوائح جائزة «بوكر» وغيرها، وكلا الأدب الواقعي وأدب الخيال العلمي يوفران لنا أسباب الراحة، أحدهما بتقديمه لنا مهرباً من الواقع اليومي، والآخر بتأكيده لنا أن الواقع الذي نعيشه ثابت راسخ لا يتغير.
غاية «عبر الواقعية» أن تكون غير مريحة، إذ تقول لنا إن واقعنا في أفضل الحالات بناء مصطنع، وفي أسوأها غير موجود، ولا تقدم إلينا مهرباً من الواقعية.
يقول راكر: «عبر الواقعية شكل ثوري. إن أداة كبيرة من أدوات السيطرة على التفكير هي أسطورة الواقع المتفق عليه، ويداً بيد مع هذه الأسطورة نرى فكرة الشخص الطبيعي ». وصف راكر «عبر الواقعية» بالثورية يكتسب معنى خاصاً لدى مقارنته باستخدام «عبر الواقعية» لدى أفضل من يمارسونها، إذ استخدم كل من مارغريت آتوود وبنتشن وفوستر والاس العناصر «عبر الواقعية» لتحدي آليات «الواقع المتفق عليه»، في تحديد الطبيعي من الناس وغير الطبيعي منهم، وفي القمع السياسي للمرأة، وفي الموت الروحي الذي ابتلتنا به جميعاً الاستهلاكية الحديثة.
تعزز «عبر الواقعية» اليوم العديد من أكثر الجوانب راديكالية وتحدّياً في الأدب المعاصر، ومن ذلك الشرح الذكي الذي يقدمه كولسن وايت لجذور العنصرية في «صاحب الحدس»، ولعبته «عبر الواقعية» النيويوركية في روايته الأبوكالبتية الزومبية «المنطقة واحد»، وتلك الرحلات المذهلة التي تقدمها مونيكا بارن على طرق المستقبل في دول العالم النامي، وحياة النساء الحبيسة بين الفقر والتغير التكنولوجي المتسارع، في «فتاة على الطريق»، ورواية المراهق المثيرة لمات هيغ «البشر»، التي تجعل البشر يرون أنفسهم عبر أعين كائن فضائي.
لـ»عبر الواقعية» تاريخ يمتد لنحو ثلاثين عاماً فحسب، لكنها في الأعوام الثلاثين المقبلة قد تكون هي الأدب الذي نعرفه.